للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مناسبة ذكر الأسماء والآيات في باب الإلحاد]

وقوله: (لا في أسمائه ولا في آياته):

وهنا تنبيه على طريقة بعض الشراح لكتب أهل العلم: فأحياناً يقف بعض الشراح مع بعض كلمات العلماء وقوفاً منغلقاً: لماذا عبر هذا العالم بهذا التعبير؟! ثم يأتون بأعجوبات هي في الحقيقة من التكلفات في تفسير سياقات العلماء.

والحقيقة أن هؤلاء العلماء بشر يخطئون ويصيبون، وهذه مقدمة ضرورية.

ومقدمة أخرى: لا يلزم بالضرورة أن تكون سائر السياقات التي عبروا بها لها معانٍ مختصة مقصودة، وإن كان لها معانٍ عامة، لكن قولهم: لماذا عبر بهذه الكلمة ولم يعبر بالكلمة الأخرى؟ هذا هو التكلف.

وقد يكون الجواب عن هذا السؤال: أن أمامه أكثر من تعبير، فعبر بواحد من هذه التعبيرات، فالتكلف في فك الكلام ليس هذا من الشرح في شيء؛ بل الشرح هو بيان المعاني المقصودة بهذا الكلام، أما التكلف في التعبير فلا.

وهنا سؤال: لماذا قال المصنف رحمه الله: (لا في أسمائه ولا في آياته) ولم يقل: (لا في أسمائه ولا في صفاته)؟

والجواب: أن المصنف هنا اعتبر طريقة القرآن، أي: أن الإلحاد ذُكر في القرآن منفياً عن أسماء الرب، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:١٨٠] ومنفياً عن آياته، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت:٤٠] فلمناسبة سياق الآيات ذكر المصنف ذلك في كلامه.

قال المصنف رحمه الله: [فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات، مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] ففي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] رد للإلحاد والتعطيل].

قوله: (فطريقتهم):

أي: طريقة الصحابة، ومن اتبعهم بإحسان.

وقوله: (تتضمن):

التضمُّن: هو تعبير عن اجتماع معانٍ متصلة أو معانٍ متسلسلة، فإذا كان السياق فيه جملة من المعاني المتصلة قيل: إن هذه الطريقة تتضمن أكثر من معنى، وبين هذه المعاني المتضمَّنة قدْر من الاتصال.

وقوله: (مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه):

المصنف في هذا المقام عبر بنفي التشبيه عن الله، وهو تعبير صحيح، وإنما الذي قد يقال: إنه من القصور أن يُذكر هذا ولا يُذكر نفي التمثيل، هذا هو القصور، أما أن يقصد إلى عدم ذكر التشبيه مطلقاً، فإن هذا ليس معروفاً عن المتقدمين من الأئمة، فإنهم صرحوا بنفيه كثيراً.

نصوص الإثبات والتنزيه تدل على التنزيه وعلى إثبات الكمال لله تعالى:

ومن القواعد في باب صفات الله تعالى: أن نصوص الإثبات تدل على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، وتدل كذلك على تنزيه الباري عن النقص، وكذلك نصوص التنزيه ونفي التمثيل وما إلى ذلك تدل على تنزيه الباري، وتدل على إثبات الكمال.

فمثلاً: في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] دلالة واضحة وصريحة على نفي التشبيه والتمثيل؛ لكن نقول: إن هذه الكلمة من القرآن هي أيضاً دليل على إثبات الكمال، فإن من وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء، دل هذا على اختصاصه بصفات كمال لا تكون لغيره.

وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] هذا دليل على إثبات الصفات، وهو أيضاً دليل على إثبات التنزيه؛ لأن الله لم يذكر في كتابه وصفاً يتصف به إلا وذكره في مقام اختصاصه به، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر صفة من صفات الله تعالى إلا وذكرها في مقام اختصاص الله تعالى بها.

فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيحين وغيرهما-: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ...) إلخ، فأضاف النزول إلى الله تعالى، ثم قال: (فيقول: من يدعوني ..

من يسألني ..

من يستغفرني ..)، ومعلوم أن من يقول: من يدعوني، من يسألني، من يستغفرني، لا يكون إلا رب العالمين سبحانه، فظهر من هذا السياق النبوي أن هذا إثبات للكمال لهذه الصفة، وإثبات أيضاً للتنزيه؛ وذلك لأن اختصاص الباري بهذه الصفة يدل على إثبات الكمال، ويدل على إثبات تنزيه الباري سبحانه وتعالى.

وعليه: فإن العلم بكمال الله سبحانه وتعالى وصفاته يُعلم من نصوص الإثبات ونصوص التنزيه -أي: نفي التمثيل- ونحوها.

كما أن العلم بتنزيه الباري سبحانه وتعالى يُعلم بنصوص نفي التشبيه والتمثيل، كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:٦٥] {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] فهي تدل على التنزيه بالتصريح والبيان.

وكذلك فإن هذه النصوص تدل على الإثبات، فإن الله تعالى لَمَّا أخبر عن نفسه أنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] عُلِم أنه مختص بكمال لا يشاركه فيه غيره؛ لأن هذا الشيء المنفي منه ما قد يتصف بشيء من الكمال؛ كالإنسان مثلاً، فإذا كان في مخلوقات الباري ما هو متصف بشيء من الكمال المناسب له، وقد قال الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وفي هذه المخلوقات شيء من الكمال في بعض مقاماتها وبعض صورها؛ عُلم بذلك أن الباري المنزه عن هذا المقام له كمال عظيم يختص به.

إذاً: سائر نصوص الإثبات تدل على إثبات الكمال، وعلى إثبات التنزيه، ونصوص التنزيه ونفي التشبيه والتمثيل تدل على إثبات التنزيه، ونفي التشبيه والتمثيل، وتدل على إثبات الكمال.

وأيضاً: فإن نصوص الإثبات المفصلة إنما دلت على إثبات التنزيه من جهة السياق، فإن الله ذكرها مضافة إلى نفسه، فدل على اختصاصه بها، وذكرها سبحانه وتعالى على معانٍ واختصاص، فدل على أنه منزه عن مشاركة غيره سبحانه وتعالى فيها.

<<  <  ج: ص:  >  >>