للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم القاتل عمداً

قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) هذه الآية من أخص الآيات وعيداً في كتاب الله، ومعلوم أن قاعدة أهل السنة والجماعة: (أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله).

وقد جاء عن ابن عباس فيما ثبت عنه في الصحيح: (أن القاتل عمداً ليس له توبة)، وقيل: إنه رجع عن ذلك، وهذه مسألة أخرى؛ لكن المقصود أن ما ذكره ابن حزم وبعض المتأخرين من أن ابن عباس يذهب إلى أن القاتل عمداً يكون مخلداً في النار، فهذا غلط على ابن عباس؛ لأن ابن عباس لم يقل: إنه يعذب في النار، إنما قال: (لا توبة له)، ومعنى ذلك: أنه يوافي ربه بالكبيرة، ويكون مستحقاً للوعيد، أما أنه يلزم من قول ابن عباس: (إنه لا توبة له) أنه يعذب في النار، فلا يلزم ذلك، ولا يلزم أن يكون مخلداً في النار.

وهذا يدخل في قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] وإن عذب -أي: إن لحقه العذاب- فإنه لا يكون مخلداً.

فمن حكى عن ابن عباس أن القاتل عمداً يخلد في النار فقد غلط عليه، ومن حكى عنه أيضاً أن القاتل عمداً يعذب في النار فقد غلط عليه؛ إنما الذي قاله ابن عباس أنه (لا توبة له) أي: يوافي ربه بذنبه، ويكون مستحقاً للوعيد، وأهل الكبائر دون الشرك -عند ابن عباس وغيره- إذا وافوا ربهم بالكبائر فإنهم تحت مشيئته.

ومسألة القتل من أشد المسائل في القرآن والسنة، وفي قتل النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً ...) إلى آخر الحديث، وقد رواه غير الشيخين كـ الترمذي وغيره.

وقد أشكل على بعض أهل العلم قوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) مع أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن الكبائر لا توجب التأبيد في النار إلا كبيرة الشرك والكفر بالله، أما ما عدا ذلك فإنه إذا عُذِّب يعذب قدراً في النار، ثم يخرج منها إلى الجنة.

وعليه: فقوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) فيه طريقان:

الطريق الأول: أن يكون هذا من باب التعبير العربي في أنه يستحق قدراً كبيراً من العذاب.

الطريق الثاني: أن تكون اللفظة الأخيرة وهي قوله: (أبداً) لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وكأن هذا هو الأقرب، وهو أن قوله: (أبداً) لفظة معلولة، فإسنادها غريب فرد، وقد أشار الإمام الترمذي إلى إعلالها، وإن كانت في الصحيحين، ومعلوم أن الشيخين إذا اتفقا على حديث لزمت صحته، كما ذكره جماعة من أهل العلم؛ لكن فرق بين أن يقال: إن الحديث ليس بصحيح، أو مطعون فيه، أو مُعَلّ، وبين أن يقال: إن لفظاً فيه دخله الإعلال.

إذاً: القاعدة الشرعية المنضبطة في الكتاب والسنة والإجماع لا يمكن أن يُخرج عنها بهذا؛ وهذا من باب رد المختلَف فيه إلى المؤتلف، أي: ما دام أن القاعدة منضبطة أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن من قتل نفسه يخلد في النار أبد الآبدين كالكفار؛ لأنه مخالف للقاعدة الأصل، وهو غير متمسك بالنص؛ لأن هذا النص الذي فيه قدر من الإشكال والاشتباه يرد إلى المؤتلف، وإلى المجمع عليه، وإلى البين المحكم؛ ولابد من مراعاة هذا الأمر في فقه الحروف؛ فإنه لا يفقه الحرف من القرآن وحده؛ بل لا بد أن يقاس وأن يعتبر في السياق وبمقارِنِه وبالأصول في هذا الباب ..

ونحو ذلك.

ولذلك فإن من يفقه الحروف وحدها يقع أحياناً في شيء من الإشكال، فمثلاً: وجد بعضهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال -كما في الصحيحين- عن الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، فقال: الحديث صريح في كفرهم.

وهذا غلط؛ لأن الصحابة وهم أفقه الناس لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لما أدركوا هؤلاء الخوارج أجمعوا على قتالهم، كما يقول ابن تيمية: أن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة، ومع ذلك يقول: إنه من جنس الإجماع عند الصحابة الذين أدركوهم أنهم ليسوا كفاراً؛ فلا يمكن أن يكون بين الصحابة إطباق على فقه نص ويكون فقهه خطأً عندهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>