للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة ابن سينا وابن رشد]

وابن سينا لم يكن يريد التقريب بين الشريعة والفلسفة؛ لأنه رجل نشأ نشأةً فاسدة، فأهل بيته كانوا من الإسماعيلية الباطنية، فنشأ إسماعيلياً باطنياً، ولذلك لم يكن عنده توقيرٌ للشريعة وأحكامها، وقد عرف بإخلاله للآداب، وبشربه للمسكر، ويذكر عنه أنه كان يسهر في قراءة كتب الحكمة والفلسفة، فإذا أعياه الأمر أخذ شيئاً من الخمر أو ما إلى ذلك ..

فكان رجلاً فاسد الديانة، وفاسد الآداب، وفاسد العمل، عنده انحراف كثير.

بخلاف ابن رشد، فإنه كان فلسفياً، لكنه رجل معظم للشريعة، وفقيه على مذهب الإمام مالك، وله مصنف مشهور في هذا وهو: (بداية المجتهد)، وأبوه كان من القضاة ومن الفقهاء المالكية، إلا أنه أُشرب هذه الفلسفة وصدقها، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، فإنه عُني بها، وشغف بها، وانتصر لها انتصاراً بالغاً، وزعم أن ابن سينا لم يفقهها، وأنه تكلم في مسائل الإشراق وما إلى ذلك.

مع أن الحق أن ابن سينا -وإن كان أضل سبيلاً من أبي الوليد ابن رشد - إلا أنه أفقه وأعلم بالفلسفة وطرقها ومواردها من أبي الوليد بن رشد، فإن ابن رشد إنما أخذ فلسفة أرسطو طاليس، بخلاف ابن سينا؛ فإنه ذكر هذه الفلسفة وغيرها.

ولذلك فإن ابن سينا له في كتبه أكثر من طريق، فمرة يستعمل الطريقة العقلية الفلسفية، وهي طريقة أرسطو، ومرة يستعمل الطريقة الإشراقية، وهي طريق الفلاسفة الإشراقيين، ومن كتبه في ذلك: كتاب (الشفا)، وهو أكبر كتبه في الفلسفة، وهو يقع في سبعة عشر مجلداً، قال في شأن هذا الكتاب في بعض رسائله: "وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جري على عادة المشائين"، ويعني بالمشائين: أرسطو وأتباعه الذين يسمون بالمشائين.

قال: "وأما الحق الذي لا جمجمة فيه" أي: لا خفاء فيه ولا شوب، "فهو ما أودعناه بالحكمة المشرقية" ويقصد بها: الطريقة الصوفية الإشراقية.

إذاً: ابن سينا عقلاني في بعض كتبه، إشراقي صوفي في البعض الآخر، وفي كتاب (الإشارات والتنبيهات) جمع بين هذين السبيلين، كـ أبي حامد الغزالي؛ فإنه عقلاني متكلم في بعض كتبه؛ كقواعد العقائد ونحوها، وهو صوفي، وهو المشهور عنه.

وقد شاعت في القرن الرابع والخامس والسادس عند الصوفية أو الحكماء أو النظار نظرية تقول: (إن المذهب الشخصي للإنسان لا يلزم أن يكون واحداً)، ولهذا إذا قرأت لـ أبي حامد كتاباً تجد أنه لا يرى فيه للعقل مقاماً؛ بل يعظم الإشراق، والنفس، وطريقة الصوفية، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً عقلانياً، وتقرأ له كتاباً آخر فتجده فيه رجلاً واعظِاً ..

وهكذا.

وقد ظن بعض الباحثين أن الغزالي كانت له أطوار، وهكذا إذا أشكل عليهم مذهب رجل قالوا: كانت له أطوار، والحق أن هذا ليس من باب الأطوار، وقد أجاب الغزالي عن هذا الإشكال فقال: "فإن سألت عن المذهب فالمذهب ثلاثة: مذهب الجدل، الذي يجادل به المخالف للحق -في زعمه- فهذا يكون بالعقل وبعلم الكلام"، وهو أشعري في هذا المقام على طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني ومن سلك طريقتهم ممن خالف طريقة مؤسس المذهب أبي الحسن الأشعري.

يقول: "وإن سألت عن مذهب العامة فهو وعظ الشريعة في الزواجر والدواعي، وإن سألت عن المذهب الحق، وهو اليقين السر بين العبد وبين ربه، فهو طريقة الصوفية".

فـ أبو حامد يستعمل هذه الطرق، ولذلك لما رد على الفلسفة وكتب كتاب (التهافت) استعمل الطريقة الكلامية، وقال: "إننا نستعين بالمعتزلة في ردنا على هؤلاء".

<<  <  ج: ص:  >  >>