للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[ترك الاستطالة على الخلق بحق وبغير حق]

قال رحمه الله: [ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي، والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق].

هذه الجملة الأخيرة من كلامه رحمه الله هي من جمل الفقه الشريفة: أنهم ينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق.

والاستطالة بغير حق بينة الفساد؛ ولكن الاستطالة بحق قد تعرض لبعض أهل العلم، ولا سيما ممن لم يكن محققاً لمقام العلم، أو بعض العامة القاصدين للخير أو ما إلى ذلك، فيكون عندهم موجب للحق، كإنكار لمنكر قولي أو عملي أو ما إلى ذلك، فيزيدون في هذا الإنكار إلى قدر أن يستطيل أحدهم -أي: يحصل منه زيادة واعتداء- على غيره من المسلمين، بغض النظر عن كون هذا الغير سنياً أو غير سني، ولكنه يكون أشد إذا كان هذا الغير الذي قصد الرد عليه من أقرانه من أهل السنة، وربما يكون أفضل منه علماً وعملاً، فهذه حال موجودة.

الله تعالى شرع إنكار المنكر، وشرع الأمر بالمعروف، لكن إنكار المنكر ليس معناه ملكية العقوبة للآخرين، فبعض الناس وهو ينكر المنكر كأنه يعاقب بشكل شخصي هذا المنكَر عليه، فيستغل نقطة الضعف الموجودة عنده، ويتصرف معه كأنه يقدم له نوعاً من العقاب الشخصي.

وإنكار المنكر ليس هكذا، فمسألة الحد أو مسألة التعزير هي مسائل سلطانية، ومن المشروع في الأمر بالمعروف وإنكار المنكر ألا يكون على قدر من الاستطالة.

فقوله رحمه الله: أنهم ينهون عن الاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق هو من هذا الوجه، ولا سيما في مقام الرد على المخالف، سواء كان المخالف سنياً أو غير ذلك، وإن كان الخلاف بين أهل السنة أتباع السلف الصالح لا ينبغي أن يؤخذ مساق النزاع الذي فيه فصل وقطع للعلائق ..

هذا غلط، وإن كان يقع من كثير من هؤلاء بقصد الانتصار للحق، وبكون الحق أغلى عندنا من الرجال؛ فهذه المقدمات المجملة مقدمات صحيحة، ولكن هذه المقدمات أحياناً لما فيها من الإجمال توجب كثيراً من الانحراف عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم أو عن هدي أصحابه.

وهذا التسابق إلى الرد على المخالف من أهل السنة ليس حكيماً، ويكفي البيان، والردود المعروفة عند السلف لم تكن على أئمة السنة؛ بل كانت الردود المشهورة والجمل المشهورة هي على أهل البدع، أما إخوانهم من أهل السنة والجماعة فما كانوا يعنون بالرد عليهم، وليس مرد ذلك إلى التطابق التام في الاجتهادات وفي الآراء، فقد كان من المعروف ما بين الكوفيين من أهل الرأي وبين أهل الحديث، صحيح أن بعض المحدثين تكلم في الرأي وأهل الرأي كثيراً، لكن هذا لم يكن على نوع من قطع العلائق على التمام، أو من جنس الكلام الذي كان يقال في أهل البدع.

أما من يريد أن يقتدي ببعض الآثار أو ببعض القصص التي عرضت، فهذا ليس مما يقتدى به، مثل: أن محمد بن يحيى الذهلي يُذكر عنه أنه طرد البخاري من مجلسه، أو أن مسلماً خرج من مجلسه، وهذا من قوته رحمه الله في السنة قد يكون الذهلي ليس مصيباً فيه، فمثل هذه المسائل لا ينبغي أن يُكبَّر شأنها؛ لأنك إذا امتدحت الذهلي، فقد تذم الطرف الآخر، وهو البخاري، فيكون كلامك مشيراً إلى أن البخاري مستحق لهذا، فهذه اجتهادات عرضت لها ظروفها الخاصة وليست سنناً عامة.

ومما يتعجب منه أن بعض طلبة العلم وبعض الشباب يستدل بقصة مجملة، ولك أن تقول: هي من متشابه المواقف، وليست من محكم المواقف، بمعنى أنها من المواقف المبنية على المصالح والمفاسد، يختلف الاجتهاد فيها حتى عند العالم نفسه، فلا تجعل كالمنهج المطرد، مثلاً: الإمام أحمد استأذن عليه داود بن علي، وكان صاحباً وصديقاً لـ صالح ابن الإمام أحمد، وكان داود بن علي قد أظهر في أصبهان أن القرآن محدث، وقد تكلم بهذه الكلمة لأنها جاءت في القرآن، وما كانت هذه الكلمة تعجب الإمام أحمد فبلغ الإمام أحمد أن داود بن علي قال هذا في أصبهان، فجاء داود إلى بغداد وتلطف لـ صالح ابن الإمام أحمد أن يدخله على أبيه، فقال صالح لأبيه: إن رجلاً من أهل أصبهان يريد أن يدخل عليك.

قال: من هو؟ قال: داود.

قال: داود ابن من؟ فقال: داود بن علي.

قال: لا يدخل، بلغني عنه أنه قال كذا وكذا.

فيأتي بعض الشباب الآن ويقول فيمن هو من كبار الصادقين أو الصالحين أو ممن انضبطت عقائدهم: لا يدخل ولا يخرج، ولا يتكلم، ولا نقبل منه صرفاً ولا عدلاً، وكأنه يطبق هنا موقف الإمام أحمد، وهذا اجتهاد من الإمام أحمد قد يكون صواباً وقد يكون غير صواب، فالإمام أحمد ليس معصوماً.

ثانياً: إذا كان صواباً وهو الصحيح: أن هذا كان صواباً من الإمام أحمد من باب ضبط السنة وألفاظ السنة في مسألة القرآن، فهذا كان لائقاً بمثل الإمام أحمد مع من هو مثل داود، وداود يفقه مثل هذا المقام، فإن داود بن علي كان من علماء السنة والجماعة، ما عنده أغلاط في الصفات مثل ابن حزم؛ فـ داود بن علي مختص بمذهب فقهي واجتهاد فقهي، أما عقيدته فهي نفس عقيدة السلف تماماً، نقل عنه مسألة أن القرآن محدث، وهذه مسألة لفظية مثل ما نقل عن البخاري في مسألة اللفظ، أو عن الذهلي أو عن أبي حاتم مسألة مقابلة لهذا.

والمقصود: أن المقامات التي تعرض من الأكابر ليست سنناً للأصاغر، السنن هي السنن النبوية الشرعية، ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وهو المشرع قد هجر الثلاثة الذين خلفوا، مع أنه حصل في زمنه معصية حتى من بعض أصحابه، كمن شرب الخمر أو ما إلى ذلك، ولم يأمر بهجرهم.

والحق فيه من البيان والقوة ما لا يحتاج إلى كثير من الاستطالة معه في مسائل الردود، خاصة الردود بين أهل السنة أنفسهم -بين السلفيين- والردود يجب أن تسخر في الرد على شبه الكفار، وشبه أهل البدع، أما الردود على السلفيين في مسائل من الاجتهاد الممكن في الغالب، فهذا ليس حكيماً، ولا مشهوراً زمن الأوائل رحمهم الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>