للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[باب التنزيه (النفي) وقواعده]

نفي النقص أو التنزيه للباري سبحانه وتعالى عما لا يليق به هل هو مبني على مورد النصوص، أم أنه ليس مبنياً على مورد النصوص؟

نقول: الجواب عن هذا السؤال يقع باعتبار المراد بهذه الجملة، ومعنى هذا: أنه لك تقول: إن التنزيه أو النفي مبني على مورد النصوص، ولك أن تقول: إنه ليس كباب الإثبات من جهة بنائه على مورد النصوص، وكلا الجوابين صحيح، ومن هنا قد يقع للمتأمل في كلام أهل السنة أنهم تارةً يسوون بين البابين -أعني: باب الإثبات وباب النفي- فيقولون: إنه يُثبت لله ما أثبته لنفسه، أو يوصف الباري بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، ويُنفى عنه ما نفاه عن نفسه.

وشيخ الإسلام تارةً يستعمل الطريقة الأولى التي يُفهم منها التسوية بين باب الإثبات وباب النفي، وتارة يُفهم من كلامه -كما هي طريقته في الرسالة التدمرية- أن ثمة فرقاً بين البابين، وأن باب النفي ليس مبنياً على مورد النصوص كباب الإثبات، وكلا الاستعمالين صحيح، ولكن يفقه المعنى المراد، فإن مرادهم حين يقولون: إن باب النفي مبني على النصوص؛ أي: أن كل نقص لا يليق بالله سبحانه وتعالى؛ فإنه يعلم أن النصوص سواء المجملة أو المفصلة قد جاءت بنفيه؛ ولهذا سائر ما يمكن أن يفرض من المعاني التي لا تليق بالله سبحانه وتعالى يصح أن يقال: إنها منفية بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، وإنها منفية بمثل قول الله تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل:٧٤]، وإنها منفية باعتبار منافاتها لصفات الكمال المفصلة.

وبهذه الطريقة فإن كل نفي يمكن أن يستدل عليه بالنصوص النبوية أو القرآنية المجملة أو المفصلة، فهذا مقصودهم حين يقولون: إن الإثبات والنفي مبنيات على النصوص.

وقد يفرقون بين البابين، كـ شيخ الإسلام في مواضع من كتبه، حيث يقول: (إنه لا يصح الاعتماد في باب النفي على مورد النصوص) ومراده بهذا أن النصوص في كتاب الله لم تفصِّل بالتعيين مورد النفي والتنزيه، فإن عامة صفات النقص لم يذكرها الله سبحانه وتعالى تصريحاً في القرآن؛ بل الذي ذُكر مفصلاً من صفات النقص قدر يسير منها؛ كالظلم في قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:٤٩] وكالنوم في قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] إلى غير ذلك؛ فالمعاني التي لا تليق بالله لم يذكر منها مفصلاً في النصوص إلا قدر يسير، فمثلاً: صفة الجهل ما نطقت بها النصوص نفياً بالتصريح؛ فلا يقل قائل: أين الدليل في نفي هذه الصفة عن الله على جهة التصريح؟ فإن هذه الصفة يُعلم أنها منفية بقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] وكذلك يُعلم أنها منفية بأن الله أثبت لنفسه صفة العلم، والعلم والجهل متقابلان، فإذا ثبت أحدهما لزم نفي الآخر ..

إلى غير ذلك من الطرق؛ ولهذا قد يقال: إن مورد التنزيه ليس مبنياً على النصوص على مثل هذا المعنى، وقد يقال: إنه مبني على النصوص على مثل ذاك المعنى، فهذا لفظ مجمل قد يقع فيه الإطلاق على هذه الجهة أو على هذه الجهة.

<<  <  ج: ص:  >  >>