للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تأويل صفة المحبة عند أهل البدع]

وأهل البدع مع هذه الصفة على قسمين:

- غلاتهم يفسرون المحبة بالنعمة والحوادث المخلوقة، وهذه طريقة المعتزلة ومن وافقهم.

- تعداد من انتسب منهم للسنة من المتكلمين المخالفين كالأشاعرة ونحوهم يفسرون محبة الله سبحانه وتعالى بالإرادة، فيقولون: المحبة هي إرادة الإنعام.

فأما من فسر المحبة بالنعمة، فلا شك أنه مخالف لصريح القرآن؛ فإن ثمة فرقاً بين نعمته سبحانه وتعالى وبين فعله، ولا يكون هذا المذهب إلا عند معطلة الصفات.

وإنما الذي التبس على كثير من أهل العلم المتأخرين وقلدوا فيه بعض المتكلمين، أنهم يفسرون محبة الله بإرادة الإنعام، فمثلاً: في قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] يقولون: معنى ذلك أنه يريد الإنعام عليهم.

ولا شك أن هذا من التأويل المخالف للسنة، فإن ثمة فرقاً في اللغة وفي الشرع وفي العقل بين صفة الإرادة وبين صفة المحبة.

حتى إذا قيل: إنها إرادة الإنعام، فإن إرادة الإنعام في العقل والشرع لا تستلزم المحبة، فإن الله سبحانه وتعالى أنعم على سائر بني آدم نعماً، وقال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:٣٤] ولا شك أن نعمه التي تفضل بها على عباده من المسلمين وغير المسلمين، هي بإرادته بضرورة الشرع والعقل.

فإذا قيل: إن المحبة المذكورة في حق المؤمنين هي إرادة الإنعام، فلن يكون هناك فرق بين المؤمنين وغيرهم؛ لأن إرادة الإنعام لا تختص بالمؤمنين، فالكفار يسمعون ويبصرون، وما إلى ذلك، أي: قد أعطاهم الله جملة من النعم الظاهرة التي لا يمكن لأحد أن يجادل فيها، وحتى إذا قيل أنهم حرموا أعظم النعم وهي نعمة الهداية، فالمقصود أن الله أعطاهم جملة من النعم، وهذا بيِّن في الحس، هذه النعم بإرادته تعالى؛ فإنه لا يمكن أن يكونوا حصلوا هذه النعم من ذوات أنفسهم.

فعُلم أن إرادة الإنعام لا تختص بالمؤمنين، بل تقع إرادة الإنعام لقوم من الكفار ابتلاءً وغير ذلك، لأنه لو لم ينعم عليهم سبحانه وتعالى لما استطاعوا القيام بالأمر، فلو كانوا لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون، فلا يمكن أن يكلَّفوا؛ فهذه النعم لا بد منها لقيام التكليف وما إلى ذلك.

إذاً: هذا التفسير غلط من جهة اللغة، فإن ثمة فرقاً عند العرب بين المحبة وبين إرادة الإنعام، والإنسان قد يريد الإنعام على شخص لا من باب محبته إنما من باب دفع شره أو من باب تحصيل مصلحة أو ما إلى ذلك من الإضافات والمتعلقات.

فهذه جهة تبين الغلط المحض في هذا التفسير.

الجهة الثانية: أن يقال: لماذا لا تفسرون المحبة هنا بوجهها الصحيح؟

قالوا: إن هذا يستلزم التشبيه.

فنقول: إن كل معنىً من التشبيه فرضتموه في صفة المحبة فإنه يلزمكم في صفة الإرادة.

فهم لم يثبتوا المحبة على ظاهرها؛ لأن هذا عندهم من التشبيه.

نقول: أنتم فسرتم المحبة بالإرادة، فعندكم أن الله متصف بالإرادة، والمخلوق متصف بالإرادة، فإن قلتم: إن المحبة هي كذا وكذا في المخلوق، ويلزم أن تكون في حق الله كذلك وهذا لا يليق بالله، قيل: والإرادة كذلك.

فإذا كان معنى المحبة الذي يليق بالمخلوق لا يليق بالله، فكذلك أيضاً: الإرادة اللائقة بالمخلوق لا تليق بالله.

فإن قالوا: إرادة الله تختلف عن إرادة المخلوق.

قلنا: فمحبة الله تختلف عن محبة المخلوق.

فما من شيء يفرون منه في صفة المحبة، إلا ويلزمهم في صفة الإرادة، ومهما قالوا من التفريق في صفة الإرادة، فإنه يلزمهم في الصفة الأخرى.

الفرق بين تأويل المعتزلة وتأويل متكلمة الإثبات:

الفرق بين تأويل المعتزلة وتأويل متكلمة الإثبات من الأشاعرة والكلابية والماتريدية أن متكلمة الإثبات في الغالب لا يؤولون الصفات بالمخلوقات؛ بل يؤولون الصفات بصفات أخرى يثبتونها؛ وذلك لأنهم يثبتون بعض الصفات وينفون بعضها، فصار ما ينفونه إذا ورد ذكره في القرآن تأولوه على الصفات التي يثبتونها؛ فهم يثبتون صفة الإرادة، فإذا جاءهم ذكرٌ لصفة المحبة وصفة الغضب وصفة الرحمة وما إلى ذلك من الصفات، تأولوا هذا النوع على معنى الإرادة، فصارت المحبة إرادة الإنعام، وصار الغضب إرادة الانتقام، وهكذا.

وأما الغلاة كالمعتزلة فإنهم يؤولون الصفات بالمخلوقات، وهؤلاء الرد عليهم أظهر؛ لأنهم مخالفون لصريح القرآن مخالفةً تامة.

ويقال عن الفئة الأولى -الأشاعرة والماتريدية والكلابية-: إن كل من تأول صفة ورد ذكرها في القرآن على معنى صفة يثبتها هو وطائفته فراراً من التشبيه، فإنه يلزمه في الصفة التي أثبتها مثل ما يلزمه في الصفة التي نفاها، ولا فرق.

<<  <  ج: ص:  >  >>