للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حقيقة مذهب السلف والأمور المترتبة على نسبة فعل ما إليه]

إذا أخذنا السؤال الأول، وهو: ماذا يقصد بالقول عن قولٍ ما، أو فعلٍ، أو تصديق: إنه مذهب للسلف؟

قيل: هذا السؤال يترتب على إجابته عدة أمور فيها تعدد: قد يكون مترادفاً، وقد يكون متنوعاً:

الأمر الأول: أن هذه المسألة سنةٌ لازمة لا يجوز لأحدٍ أن يخالفها، وأن ما خالفها يكون بدعةً وضلالة.

الأمر الثاني: أن من تقمص مخالفة هذه المسألة فقد تقمص ضلالةً، ومن دعا إليها فقد دعا إلى ضلالة.

الأمر الثالث: أنه لا يجوز الاجتهاد بخلاف ما قيل عنه أنه قولٌ أو مذهب للسلف.

هذه حقائق لابد أن تكون بينةً لطالب العلم، وهي تترتب على القول عن قولٍ ما أو فعلٍ ما: إن هذا مذهبٌ للسلف، أو من مذهب السلف كذا، أو السلف يقولون كذا، فضلاً عن القول: إن قولاً ما أو فعلاً ما مخالفٌ للسلف، فإن هذا آكد في التصريح، حيث إن وصف المخالفة بأنها مخالفةٌ للسلف أو لمذهب السلف -سواء كانت مخالفةً قولية أو فعلية أو تصديقية- يعني أن هذه المخالفة من البدع، ومن الضلال، ومما لا يعذر أحد بمخالفته، ولا يجوز أن يقال عن صاحبها أنه على الاجتهاد المأذون فيه، بل لابد أن يكون عند صاحبها -وإن سميّ مجتهداً من وجهٍ آخر- تفريط، وتقصير في تحقيق الحق، وفي اتباع السنة

إلى غير ذلك من اللوازم، والمتضمنات لهذه الجملة.

إذا عرف هذا المعنى؛ تبين أن ما يقال فيه: إنه مذهب للسلف، فإن معناه: أنه من جنس مسائل الإجماع، أي أنه إجماعٌ وهديٌ ولزومٌ لا يجوز لأحد الاجتهاد بخلافه، حتى لو فرض أن مبنى الاجتهاد ظاهر من الكتاب أو السنة، فإن هذا الاجتهاد لابد أن يكون غلطاً، ولابد أن يكون هذا الفهم لما استُدل به من الكتاب أو السنة فهماً باطلاً، وضلالاً عن الحق ..

إلى غير ذلك من اللوازم.

وهذه المسألة لابد من ضبطها على هذا التقدير، وإذا تم ضبطها تبين أنه لا يجوز القول عن مسألةٍ من مسائل الخلاف بين الأئمة: إن هذا القول هو طريقة السلف؛ مع العلم أن في المسألة خلافاً بين فقهاء السلف أنفسهم.

وعليه: فإن عامة المسائل المتعلقة بالعبادات وتفاصيلها وإن رجَّح المرجحُ فيها، وإن كان قوله قد نطقت به جملة من النصوص إلى درجةٍ تحاكي الظاهر عنده أو الصريح، ورأى أن القول الثاني بعيدٌ عن هدي السنة أو ظاهرها أو عما يتعلق بذلك من أوجه الاستدلال، مع هذا كله لا يجوز له أن يقول عن هذا القول: إنه مذهبٌ للسلف، أو هذه سنة السلفيين، ومن خالفها فقد خالف طريقة السلف أو السنة السلفية.

وأضرب لذلك مثلاً قد يستعمل كثيراً في هذا العصر، ولابد من التنبيه إلى مثله، مثال ذلك: الإشارة بالإصبع في التشهد ..

هذه المسألة الجمهور من علماء السلف على شرعيتها، وإن اختلفوا في تحديد ما يتعلق به المقام من الإشارة، فهذه مسألة خلافٍ بينهم، ولكن من الفقهاء المتقدمين من لا يذهب إلى ذلك.

فهذا الفعل يصح أن يقال فيه: إن هذا ثابتٌ بسنةٍ صريحة، وأن من خالفها فقد خالف ظاهر هذه السنة إما لكونها لم تبلغه أو لم تصح عنده، وأن قوله غير معتبر، أي لا يصار إليه، ولا يفتى به، ولا يدعى إليه، مع بيان أن السنة هي الإشارة وإن اختلف في تحديد مقامها.

لكن أن يقال: إن هذه من السنن السلفية، وأنه لا يتركها إلا من هو خارج عن مذهب السلف ..

فهذا غلط.

وهذا وإن تعلق ببعض الأحناف إلا أن له مثالاً في سائر الأئمة، بمعنى: أنه إذا تتبعت أقوال الأئمة -كالأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد - فإننا نجد أن لكل إمامٍ في الجملة بعض المسائل التي تخالف بعض ظواهر النصوص البينة، وهذا لكون هذه النصوص إما أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده، أو لسبب من أسباب التردد فيها، أو عدم الأخذ بظاهرها أو ما إلى ذلك.

من أمثلة ذلك: أن الإمام مالكاً يذهب إلى أنه لا يستفتح بدعاء الاستفتاح المعروف في الصلاة، مع أن دعاء الاستفتاح روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه متعددة محققة في الصحيحين وغيرهما، فهذا لا شك أنه مخالف لظاهر السنة، لكنه لا يجوز أن يقال: إن ترك الاستفتاح مخالفة لمذهب السلف.

<<  <  ج: ص:  >  >>