للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[هل كان الصواب هو القتال مع علي أو ترك القتال؟]

الذي يظهر أنه ليس الشريف في الفقه الجزم بأحد القولين، فإن هذا اجتهاد لقوم وهذا اجتهاد لقوم، وإنما الشريف فقهه في هذا الذي وقع بين الصحابة: ما تراه من حكمة الصحابة رضي الله عنهم في مسائل الفتن؛ فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع إمامته في العلم، ومع سابقته في الإسلام، ومع قدرته -إن صح التعبير- على القيادة العسكرية -أي: أن سعد بن أبي وقاص قد اجتمعت له موجبات الخلافة والإمامة، حتى إن عمر جعله في الستة الذين جعل الخلافة فيهم- ومع ذلك اعتزل، ولم يعتزل قريباً، بل اعتزل في إبله، وكان يتحرج أن يرى سواداً قادماً إليه، حتى إنه لما قدم ابنه إليه وهو راكب على بعير قال سعد -وهذا في الصحيح-: "أعوذ بالله من شر هذا الراكب".

فهو لم يكن يحب أن يأتيه أحد، مع أن الناس يتنازعون الخلافة، والدماء تسيل ..

إلخ.

وهذا من فقه الصحابة رضي الله عنهم.

ومع هذا الاعتزال الشديد لم يشنع سعد رضي الله عنه على من خاض الغمار كـ علي بن أبي طالب، ولم يشنع علي بن أبي طالب على سعد، بل كان يقول: "لله در مقام قامه سعد بن مالك، وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً، إن خطأه ليسير، فقد برئ من كثير".

إذاً: في زمن الفتن والنوازل لا يستغرب وجود الاختلاف، وإن من قلة الفقه وقلة العلم: الطعن على المخالف باجتهاد سائغ.

ومن المعلوم أنه في أول قتال للمسلمين في بدر استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في شأن الأسارى، فأتى بأخص رجلين في الإسلام إمامةً وعلماً وتقوى

إلخ، وهما الشيخان: أبو بكر وعمر.

فقال: ما ترون في شأن هؤلاء الأسارى؟

الذي سوف نلاحظه هنا أن الصحابة عندهم مبدأ الوضوح في كل شيء، وهذا هو الذي يجب أن يربى عليه المسلمون، حتى الأطفال يجب أن يربوا على الوضوح، أما مسألة المجاملات والتحزبات والالتفافات غير المدروسة، ثم يقال في الأخير بعد كذا سنة: تبين لنا أن الطريقة السابقة غير شرعية أو غير دقيقة، وأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ..

حسناً: أين كنت في السنين الماضية؟ يعني: لو كان عنصر الوضوح بيناً لما عانت الأمة مثل هذه التكدسات في المواقف التي تتعب الجماهير وتتعب الأمة، ثم بعد ذلك يتراجعون عنها أو ما إلى ذلك.

ماذا قال أبو بكر؟

قال: (يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوةً على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام).

فـ أبو بكر رضي الله عنه، يقول: (بنو العم والعشيرة)، ويقول: (عسى الله أن يهديهم للإسلام) مع أن القوم جاءوا يقاتلون المسلمين، بعد أن طردوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ..

إلخ.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (ما ترى يا ابن الخطاب؟

قال عمر: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا منهم، فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه).

مع أن عمر رأى الرسول قد تكدر لما رأى شأن العباس، وأمر له بقميص حتى ما وجد إلا قميص ابن أبي فأمر به ..

إلخ، قال: (وتمكنني من فلان -نسيب لـ عمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) أي: هو لم يعتبر أنهم بنو العم والعشيرة، فـ عمر رضي الله عنه هنا ما نظر إلى معطيات أبي بكر ومنطقيات اجتهاد أبي بكر، وهذا يدل على أن مناطات الاجتهاد قد تختلف، وقد تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بعيدة، ويصير هذا المناط ممكناً والمناط البعيد عنه أيضاً ممكناً.

فهذا الاجتهاد وإن كان له مناط بعيد عن مناط أبي بكر، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أحدهما، وإنما قال عمر: (فهوى رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت).

وقد يقول قائل: إن القرآن نزل.

نقول: نعم، القرآن كان ينزل، لكن الآن الاجتهاد سيظل اجتهاداً؛ لأنه لا يمكن أن ينزل نص يحسم المسألة، وهذا يدل على أن الاجتهاد قد يتباعد مناطه، فإن مناط أبي بكر مناط شرعي ممكن، وهو أنهم بنو العم والعشيرة، مع رجاء إسلامهم وأخذ الفدية منهم لتكون قوة لنا على الكفار ..

فهذه مناطات شرعية ممكنة.

لكن عمر قال: هؤلاء أئمة الكفر ..

وهذا -أيضاً- مناط شرعي.

قد يقول قائل: إن القرآن غلَّط.

نقول: القرآن كان ينزل أما الآن فلا ينزل ..

هذه جهة.

الجهة الثانية: أنه حتى لما نزل القرآن لم يغلِّط مناط الاجتهاد عند أبي بكر أو عمر، إنما نزل القرآن بحكمة غيبية لا يمكن أن يصل إليها الاجتهاد، والعقل البشري، أي: هي قضاء رباني محض، وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال:٦٧] وهذا ليس من مقامات الاجتهاد بل من القضاءات التسليمية الربانية، وإن كانت حكمته واضحة: أن هذا هو التمكين والقوة ولا شك.

[وصنف أمسكوا عن القتال وقعدوا، وجاءت النصوص بترجيح هذا الحال].

وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، مع أن أسامة بن زيد له فقه أيضاً مختص، ومن الفاضل أن ينبه إليه: فقد كان موافقاً لـ علي بن أبي طالب ومنتصراً له، لكن لما رأى أن علياً وصل إلى السيف توقف.

وهذا الفقه: أن الإنسان قد يوافق عالماً أو ناظراً أو ما إلى ذلك، ولكن إذا تجاوز به المقام فلا يجوز للثاني -أي: للتابع- أن يتابع إلا أن يكون على بصيرة في الثاني كما كان في متابعته في الأول على بصيرة، وأما التقليد في الثاني تبعاً للتقليد في الأول فهذا لا يجوز.

فلا يصح أن يقول: ما دام أن بدأنا في هذا الدرب سنواصل فيه، ولا يمكن الرجوع الآن ..

فأسامة لما وصل الأمر إلى السيف أرسل إلى علي بن أبي طالب يقول له: "لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه -وهذا واضح في موالاة علي - ولكن هذا أمر لم أره".

أي: السيف.

<<  <  ج: ص:  >  >>