للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[من انتسب إلى طائفة لا يلزم أن يحكم عليه بحكم تلك الطائفة]

لكن هنا أنبه إلى مسألة ذكرها بعض المحققين من أهل العلم، وهي: أنه قد ينتسب -في أعقاب من التاريخ- بعض الأعيان إلى طائفةٍ هي من جهة أصولها من الطوائف الكفرية المعلومة الكفر بالضرورة، لكونه لم يعرف من مذهبها إلا جملةً من ظاهره، وأما خفي المذهب وجوهره فليس عليماً به، فإذا كان كذلك فإنه لا يعطى حكم هذه الطائفة.

ومثال هذا: أن ابن تيمية رحمه الله تكلم عن النصيرية، وأنهم كفار، وزنادقة، لكن هذا الكلام ليس معناه أن كل من انتسب إلى النصيرية يعطى هذا الحكم؛ لأن كثيراً من العامة الذين انتسبوا في التاريخ إلى النصيرية إنما أخذوا من مذهب النصيرية تولي آل البيت، ومسائل التشيع الظاهرة، ومسائل التشيع الظاهرة لا توجب الكفر للأعيان في الجملة إلا على استثناءات سبق الإشارة إليها.

إذاً: بعض الطوائف قد يحكى الإجماع على كفرها، ومع ذلك لا يلزم أن يكون كل من انتسب إليها كافراً، بل كثير من العامة الذين ينتسبون إليها ليسوا كفاراً، وإن كانوا أهل بدعة.

ومن الأمثلة: القول بوحدة الوجود، والتي يقول فيها ابن تيمية: "إن هذا كفر بالإجماع، وهو أكفر من كفر اليهود والنصارى" لكن هل كل من انتسب إلى ابن عربي القائل بها أو إلى طائفته، أو مجدّ قوله هذا تمجيداً عاماً يلزم أن يكون ملتزماً لحقيقة مذهبه؛ وهل من امتدح ابن عربي يلزم أن يكون ملتزماً لحقيقة مذهبه الكفري؟

الجواب: لا، فإن هناك علماء -كـ ابن الصلاح - أثنوا على ابن عربي، حتى إن ابن تيمية نفسه يقول: "وكنت في أول الأمر أنا وإخوان لي نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكيه، وكان يقع لنا من كلامه قدر فاضل من الاستفادة في تقريره لبعض مسائل السلوك، ثم أبان الله بعد ذلك لنا ما قصد في كلامه من الكفر والإلحاد والمروق من الدين، فبينا ذلك في مواضع من كلامنا".

وقد يقول البعض: من انتسب إلى كافر فهو كافر ..

وهذا القول غير صحيح، فقد ينتسب إلى طائفة كفرية قوم ليسوا كفاراً.

مثلاً: أصل فكرة القاديانية الغالية فكرة رافضة للإسلام، وهي فكرة نقل الإسلام والنبوة إلى العجم وبلاد الهند، لكن أصبح كثير من عوام المسلمين أتباعاً لهذه الدعوة، فهل يصح أن يقال عن هؤلاء: إنهم يعطون الحكم الذي يعطاه الغالية الملتزمون لأصول المذهب وحقائق المذهب؟ هذا ليس بلازم.

وهذه قاعدة تطرد: لا يلزم أن يعطى المنتسب لظاهر المذهب حكم المذهب الذي هو الجوهر، والذي لا يلزم أن يظهر لجميع العوام؛ ومن المعلوم أن طائفتين: الشيعة والصوفية، كثر في كلامهم تقسيم الدين إلى ظاهر وباطن، حتى ما يقررونه من الظاهر في الجملة أنه بدع، ولكن في الغالب أنها ليست بدعاً كفرية.

مثلاً: الغالية من الشيعة: تظهر التشيع لـ علي بن أبي طالب، وسب الصحابة؛ لأنهم ظلموا أهل البيت أموالهم وهذا وإن كان بدعة إلا أنه ليس كفراً، وقد يكون عند بعض رؤسائهم وأعيانهم حقائق يسمونها الباطن الذي لا يصل إليه إلا الخاصة ولا يصل إليه العامة، فهل يؤاخذ من ينتسب من العامة لهذه الطائفة بأحكام الباطن؟ لا؛ لأن الإنسان لا يكفر إلا بما أظهر وعُلم من نفسه اليقين به.

والنتيجة من هذا: أن مجرد الانتساب لطائفة كفرية لا يلزم منه أن يكون المنتسب على تطبيق لحقائق مذهبها، بل لا بد أن المعين ينظر في شأنه.

وبشكل عام: بقدر ما يستطيع الطالب أن يبتعد عن التكفير يكون أفضل، وهو لن يسأل يوم القيامة: لماذا لم تكفر زيداً وعمراً؟

إنما الذي يجب العلم به هو: كفر الطوائف التي كفرت بالله ورسوله على التصريح، ككفر اليهود، والنصارى، وعبدة الأوثان، أما هذا السواد من المسلمين الذين اختلطت عليهم الأمور، وخلطوا السنن بالبدع وما إلى ذلك، فمن استقر عند أئمة السلف كفره فإنه يكفر، وأما من تردد السلف في تكفيره فلست أولى بالوقوف منهم؛ لأن القوم كانوا أعلم وأدرى وأدين وأحق ومع ذلك توقفوا أو تنازعوا، فالمسألة إذا دخلها مادة من التردد أو النزاع فالكف عنها أولى؛ لأن الله يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦].

يقول الإمام ابن تيمية مع كلامه في الرافضة في بعض كتبه: "ومع ذلك لما ظهر عليهم السلطان في أعالي الجبل: استفتى في مسألة كفرهم ومسألة قتلهم.

فأفتينا أنهم ليسوا كفاراً ولا يستحقون القتل، بل يفرقون بين أمصار المسلمين حتى يندفع شرهم وفسادهم" هذا جواب شيخ الإسلام لما استفتاه السلطان في شأنهم، هذا وقد ظهر السلطان على ثورتهم أو على معارضتهم -بالأسلوب المعاصر-.

إذاً: الاندفاعات في تكفير سواد المسلمين: الصوفية كفار ..

الشيعة كفار ..

الخوارج كفار ..

كذا كفار

هذا خطأ، والأصل أن من أظهر الإسلام يسمى مسلماً، وإذا تبين ظهور الكفر عنده ظهوراً تاماً فكذلك.

ومن المعلوم قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مسائل في توحيد العبادة، وبعض مسائل الطواف بالقبور، إلا أنه في رسالته إلى الشريف يقول: "ومع ذلك ليس كل من أتى شيئاً من هذه المسائل حكمنا بكفره ابتداءً، وإنما نحكم بكفر من علم قيام الحجة عليه من كلام الله ورسوله".

وكذلك الإمام ابن تيمية يقول: "وكثير من المسلمين يعملون ما يظنون أنه من حقائق الإيمان والقربة إلى الله، وهو عند التحقيق يعلم ضرورةً أنه من الكفر بالله ورسوله".

وإذا قيل: ما الفرق بين كفر هؤلاء وكفر أبي جهل؟

قيل: أبو جهل أساساً لا يقول لا إله إلا الله، وليس عنده استعداد لأن يقول: محمد رسول الله.

وهذا لا يعني عدم تكفير أهل البدع؛ فإن من أهل البدع الكافر ظاهراً وباطناً كالقدرية الغلاة، والمنافقين من أهل البدع، وكمن اجتهد من اجتهد من الأئمة فكفره

إلخ.

فالمسألة يجب أن تكون بعيدة عن -لا نقول بعيدة عن التكفير، وإنما العبارة المحققة يجب أن تكون بعيدة عن - الإطلاق والعمومات، هذه مما يجب على طالب العلم أن يتجنبه، وهو أن يأتي إلى طائفة من طوائف المسلمين فيكفرها، وكأن هذه الطائفة لم توجد إلا اليوم، مع أنها وجدت منذ قرون وما كان السلف يكفرونها، بل حتى مسائل الأحكام الظاهرة، فهذا ابن تيمية يقول: "وإذا كان الرسول أجرى أحكام الإسلام على المنافقين الذين يعلم أنهم في نفس الأمر كفار، فمن باب أولى أن تجرى أحكام المسلمين على من أظهر الإسلام ممن يتردد في شأنه في نفس الأمر بين الكفر وعدم الكفر من أهل البدع".

باختصار: أن من يريد أن يتفقه في هذه المسألة فليعتبر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأنه كلام محقق مفصل.

وقد تقدم بيان خطأه من يقول: إن ابن تيمية كفر الرافضة، فإن ابن تيمية يقول: في كلامهم كفر، ويقول: يقع في بعض أعيانهم الزندقة والإلحاد والكفر، لكن أنه يلتزم أن كل من انتسب لهذا المذهب فهو كافر بعينه مثل ما يقال: إن كل يهودي كافر بعينه .. ! هذا ما قاله شيخ الإسلام لا في الرافضة، ولا في الخوارج، ولا في القدرية، ولا في غيرها، إنما شيخ الإسلام يلتزم معاني، يقول: من التزم القول بوحدة الوجود على معناها المعروف في الفلسفة كان أكفر من اليهود والنصارى ..

وهكذا، ويقول: من التزم تحريف القرآن من جنس تحريف التوراة والإنجيل ظاهراً وباطناً فهذا كافر.

أما التكفير بالأسماء -وهذه هي الفائدة التي يمكن تلخيصها- فليس منهجاً شرعياً، أي: من اسمه شيعي يكفر .. ، أو من اسمه خارجي يكفر ..

هذا غلط، إلا الأسماء التي انضبط في كتاب الله كفر أهلها، كأن يقال: كل يهودي كافر ..

كل نصراني كافر ..

كل مجوسي كافر ..

هذه الأسماء المنضبطة الكفر والتي هي عبارة عن ملل كفرية أساساً، أما الأسماء التي هي عبارة عن طوائف انتحالية في داخل أهل القبلة في الأصل، فطرد التكفير بسبب الأسماء بين أهل القبلة لا يسوغ.

<<  <  ج: ص:  >  >>