للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اجتهاداً؛ لأنهما قالا: لو كان العادمُ كالواجدِ، لم يكن لتقييده بالواجدِ معنىً. قالوا: على أنَّ ما ذكرناه يقابلُه ما رُويَ عن الأخفش (١) أنه قالَ: قولُ القائلِ: ما جاءني غير زَيد. لا يدُل على مجيء زيد، بل يَدُلّ على نفي مجيء غيره، دونَ إثبات مجيئه.

فيقال: أبو عبيد ذكرَ ذلك في كتب اللغةِ، ولم يذكره في كتب الأحكامِ، وليسَ في اللغةِ اجتهادٌ، إنما هي نقل، وقولُ الأخفشِ لا يقابِلُ قولَ أبي عُبيد؛ لأنَّ الأخفشَ نحويٌ، ولم يكن من المبرزين في اللغة، وأبو عُبيد إمامٌ في اللغة، وله "غريبُ المصنف" وغيرُه من كتب اللغة.

ومنها: أن قالوا: الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأزيدنّ على السبعين (٢) "، فإنه من أخبارِ الآحادِ التي لا يثبتُ بمثلها هذا الأصلُ؛ ولأنه يبعد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودِقةِ فهمِه أن يسمعَ اللهَ سبحانه يبعدُه ويُؤيسه من المغفرة للمنافقين بقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠]، ثم يقول: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: ٨٠]، ويقصد أنَّ التكثير من الاستغفار لا يَنفع ولا يُسمع، فيلج ويُلحُ حتى يقول: لأزيدنّ، هذا يخرج مجرى العنادِ الذي لا يليق به ديناً ولاخُلقاً.

على أنه لو زاد لكانت زيادتُه استصلاحاً للمنافقين الأحياءِ بالاجتهاد في الشفاعةِ من أقاربهم، ويجوزُ أن يقصدَ الاستصلاح بنوعٍ من الإلحاحِ في السؤال لا لأجل أنه عَقَل من ذلك النطقَ، إذ الزيادةُ على السبعين قد تنفعُ وتستجابُ.

قالوا: وقد قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمتُ إذا زدتُ على


(١) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي، أبوالحسن الأخفش الأوسط، النحوي اللغوي، أخذ العربية عن سيبويه، وصنف كتاب "الاشتقاق" و"معاني الشعر" وغيرهما، توفي سنة (٢١٥ هـ). "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ٢٥٦، "إنباه الرواة" ٢/ ٣٦.
(٢) تقدم في الصفحة ٢٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>