للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا ترى أنَّ الدليلَ قد دل على أنَّ الله سبحانَه يثيبُ المؤمنين بالجنةِ، وأنَه يعاقبُ الكافرَ بالنارِ, وإن كان مدلولُ هذا الدليلِ وهو عينُ الإثابةِ والعقابِ، متأخّراً، كذلكَ دلالةُ التخصيصِ في العقلِ سابقةٌ لمدلولِ العمومِ.

ولأنَّه ثبت بدلائل العقولِ أنَّ اللهَ سبحانَه خالقٌ، وأن صفاتِه قديمة غيرُ مخلوقةٍ، وأنَّه واحدٌ ليس بذي أعضاءَ ولا جوارحَ، فإذا وردت صيغُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر ٦٢]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: ٢٧]، {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: ٦٤]، اقتضت دلالةُ العقلِ السابقةُ (١) صرفَ العمومِ إلى الخصوصِ، وصرفَ ظاهرِ هذه الأسماءِ عن الأعضاء (٢)؛ ولأنَ الدلائلَ باقية إلى ما بعدَ نزولِ هذه الآياتِ، فلا معنى لتخصيصِها بالتقدُمِ على ما خصصه.

وأمَّا تعلقهم بالمنعِ من التخصيصِ به لامتناعِ النَّسخ به، فليسَ التخصيصُ من النسخ في شيءٍ؛ لأنَّ النّسخَ رفعٌ لما ليسَ بأصلَح، أو ما فيه مفسدةٌ وليسَ في العقل ما يقتضى الأصلَح والأفسَد؛ لأنَّ الحظرَ والإباحةَ والإيجابَ ليسَ من قضاياه، فأمَّا الإحالةُ والتجويز, فإنَّها من قضاياه التي لا خلافَ فيها، فهو يقضيى بتجويزِ جائزات كونها، وإحالةِ الممتنعات، وإيجاب واجبات وجودها، فأما الأحكامُ فلا.

والتخصيصُ تدخل عليه قضاياه (٣)، فإنَّه مما يقضي أنَّ الصفاتِ المخصوصةَ تجبُ لله سبحانَه، فلا تدخلُ تحتَ مقدورٍ, ولا يجوزُ زوالها كما وجبَ وجودُها، فإذا قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر ٦٢]، أرشدَ العقلُ إلى أنَّه لا يدخلُ تحتَ هذا العمومِ ما وجبت له من الصفاتِ، وإذا قال: فولِّ وجهَك شطرَ بيتِ المقدسِ. لم يكن في قضاياه تقديرُه مدةَ الاستقبالِ، ونقلُ الاستقبالِ إلى الكعبةِ، ولأنَ النسخَ


(١) في الأصل: "السابقة على"، وبحذف (على) يستقيم المعنى.
(٢) أي: لا نُشَبِّهها باعضاء المخلوقين، ولكن نُثبتها بما يليق بجلال الله وعظمته سبحانه. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": ٢٦٤ - ٢٦٦
(٣) أي تدخلُ على التخصيصِ قضايا العقلِ، من جوازِ الوجود، ووجوبِه، وامتناعه.

<<  <  ج: ص:  >  >>