للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالقياسِ وخبرِ الواحدِ يجوز وذلكَ لأنَه بيانُ المرادِ باللفظِ، والنسخُ بيانُ غايةِ الحكمِ، وذلكَ لا يعلمُه إلا من يحيطُ علماً بالمصالحِ ومن له المشيئةُ النافذةُ، ولأنَّ العقلَ يجوز بقاءَ الحكمِ الذي شَرعَه اللهُ، إذ قد أجمع (١) أربابُ العقولِ من أهلِ الشرائعِ أنَّه لا يجوزُ أن يردَ الشرعُ بغير مُجوَّزاتِ العقولِ، فإذا جوَّزَ ذلك وعُلم أن الواضعَ له الحكيمُ الأزليُّ الذي لا يَصدرُ عنه ما يقضي عليه العقلُ، بل يقضي به العقلُ، فلا سبيلَ إلى نسخِ ذلك الحكمِ بالعقلِ.

فأمَّا إذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: ١] حسُنَ أن يشعر العقلُ بتخصيص هذا الأمرِ العامِّ بإخراجِ من لا يَسوغُ في العقلِ خطابُه من الأطفالِ والمجانين.

وقد أجابَ بعضُ الناسِ: بأنَ معنى النسخ ليس بأكثرَ من رفعِ الحكمِ الحكمَ، أو مثلَ الحكمِ المشروعِ في مُستقبل الزمان لمصلحةٍ تجدَّدت، وهذا ينهضُ بهِ دليلُ العقلِ في سقوطِ خطابِ اللهِ المستمرِ في كلِّ زمانٍ بما يتجددُ من عجزِ المكلَفِ عن النهوضِ بالتكليفِ بذلكَ الحكمِ المشروعِ، فقد نهضَ بالنسخِ على هذا الوجهِ، وإنَّما منعَ الاسم (٢)؛ لأنَّهم خصّوا اسمَ النسخِ بما حَصلَ بلفظِ الشارعِ، حتى إنَ ما رفعه الإجماعُ لا يُعدُّ نسخاً، وإلا فالمعنى قد حصَلَ.

وأمَّا تعلقهم بالاستثناءِ وأنَّه لما لم يَجُزْ تقدمُه على المستثنى منه، كذلك التخصيصُ. فلا يصحُّ؛ لأنه لو ابتدأ بقوله: إلا زيداً، لم يُعدَّ متكلِّماً بلغةِ العربِ، وإن قالَ بعد ذلكَ: رأيتُ الناسَ. ولو قال: إنَّما يقعُ خطابي بالتكاليفِ للعقلاءِ البالغين، ثمَّ قالَ: يا أيها الناسُ اتقوا ربكم، اعبدوا ربكم. صحَّ، وانطبقَ الأوَّلُ على الثاني بالتخصيصِ، فصارَكأنه قال: يا أيها الناس العقلاءُ اتقوا ربكم (٣).


(١) في الأصل: "اجتمع".
(٢) أي: منعَ تسمية طروءِ العجز على النهوض بالتكاليف: نسخاً.
(٣) انظر "العدة" ٢/ ٥٤٩ - ٥٥٠، و"التمهيد" ٢/ ١٠٣ - ١٠٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>