للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما تميزت كلُّ أمةٍ من الأممِ بصناعةٍ، فالرومُ بالنِّساجة، والفرسُ بالأبنية وعمارة الأَرض، والهندُ بالتطبيب والتركُ بالهراش (١)، والزنوجُ بالكَدِّ وأعمالِ الأبدانِ، وحملِ الأثقال، فلا ينبغي أن يُدخلَ على وضعِهم، ولا يُنسبَ إليهم فيما خُصّوا به [من] (٢) الكلام ما يُستهجنُ ويُستقبح، ولا أهجنَ وأقبحَ من قولِ القائل: دخلَ الناسُ إلا الحميرَ، وخرج الناسُ إلا الكلابَ، فلا وجهَ لإضافتِه إلى لغةِ القوم، لا سيّما وَضعاً وحقيقةً، لاتوسعاً ولا تجوّزاً.

يوضِّح هذا: أن ما أفادَه السكوتُ لا ينبغي أن يصرَّحَ به، فإنَّه لو قالَ: جاءني الناسُ، وجاءني بنو تميم، لعُلمَ بذلكَ تَوحدُهم عن بني تميمٍ من العرب، فضلاً عن الحمير، فإذا قال: إلا الحمير فما تلفَّظ إلا بما كان (٣) يحملُه السكوتُ.

فصل

في شبههم

فمنها: أن قالوا: إنَّ الاستثناءَ من غيرِ جنسِ المستثنى منه لغةُ العرب، يشهدُ لذلك القرآن، وأشعارُ العرب، وما سُمِعَ في منثورِ كلامِها، قالَ اللَّهُ تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: ١١] وقد نطقَ القراَنُ بأنَّهُ مِنْ جنس آخرَ ليس مِنْ جنسِ الملائكةِ، فقال في آية اَخرى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: ٥٠] وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: ١٢]، والملائكة ليستْ من نارٍ، بل هي حرّةُ الأصلِ، مخلوقةٌ من الأنوارِ (٤) أو


(١) الهِراش: هو المقاتلةُ والمواثَبة. انظر "اللسان": (هرش).
(٢) زيادة يقتضيها السياق.
(٣) العبارة في الأصل: "ما تلفظ لا يعمل إلاّ ما كان"، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) الثابت في الحديث أن الملائكة خلقت من نور، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من ناؤ وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم". أخرجه مسلم (٢٩٩٦)، وأحمد ٦/ ١٥٣، والبيهقي ٩/ ٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>