للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

و {الْكَافِرُونَ} [المائدة: ٤٤]، و {الْفَاسِقُونَ} [المائدة: ٤٧]، تكررَ ذلكَ عقيبَ قولِهِ: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}، وهذا يعمُّ كلَّ تاركٍ للحكمِ بما فيها؛ من مُسْلمٍ ويهودي، وغيرِ ذلكَ، وأيَّدَ ذلكَ بقوليِ سبحانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: ٤٨]، ونهاهُ بعدَ ذلكَ عن اتباعِ أهوائِهم، فقال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: ٤٨]، وإذا لَمْ يَنْهَ إلا عَن اتباعِ أهوائِهم، بقيَ اتباعُ ما أنزل اللهُ إلى أنبيائهم (١).

ومنها: قولُه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: ١٢٣]، وهذا تصريحٌ بالأمرِ بالاتباعِ لإبراهيمَ فيما نزلَ إليه.

فإنْ قيل: قولُه: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} دلالةٌ واضحةٌ في أنَهُ أرادَ التوحيدَ دونَ فروعِ دينهِ وعباداتِه (٢).

فيُقال: الملةُ عبارةٌ عنِ الشريعةِ، وصفتُهُ بكونهِ حنيفاً، ونَفْيُ الشركِ عنهُ لا يقصرُ الاتباعَ ويخصُّهُ، بل الاتباعُ على عمومِهِ، ألا تَرى أنَّ التوحيدَ لا يختصُّ بإبراهيمَ، بل هو اعتقادُ كلِّ نبىٍّ قبلَهُ وبعدَهُ؟ فلَمَّا خَصَّ ملةَ إبراهيمَ، عُلِمَ أنَّهُ أرادَ أحكامَ شريعتِهِ، دونَ التخصيصِ بتوحيدِهِ.

على أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ أدلةَ التوحيدِ عقليَّةٌ، لا تحتاجُ ولا تفْتقرُ إلى وحيٍ، بل طريقُها النظرُ والاستدلالُ بدلائلِ العقلِ، ولولا سبقُ أدلةِ العقولِ بأنَّ لنا صانعاً، ولهُ ملائكة، وأنه يجوزُ أَنْ يُرسلَ إلى الآدميين؛ بما يكون سياسةً لهم، وحافظاً مِنْ شرائعِ الأحكامِ،


(١) العدة ٣/ ٧٥٩ - ٧٦٠.
(٢) في الأصل: "وعاداته".

<<  <  ج: ص:  >  >>