للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك، ولا يكون بداءً، فما المانع من الحكمةِ أن تكونَ المصلحةُ في إبقاءِ الحكم وتشريعه إلى غايةٍ، ثم ينسخُ بالنهي عن استمراره واستدامته، فتكونُ غايتُهُ في الزمانِ كغايتهِ في المقدار؟ فيقال للمحرمِ يومَ النحرِ، إذا رمى جمرة العقبةِ في الحج: حَسْبُكَ، عُد إلى إزالةِ الشَّعَثِ، والتَجمُّلِ باللِّباس، وتغطيةِ الرأس، والتَّطيُّبِ، واصْطَدْ، ثم يقال للصائم إذا غَرَبَتِ الَشمسُ: حسبُكَ، كُلْ واشربْ، وطَأْ، وعلى هذا، ولا فصلَ لهم بين الأمرين -أعني: غايةَ العبادةِ نفسها، وقطعَها عن المرور فيها، وبين قطعِ زمانِ فعلها- وحقيقته تَبْيينُ العْاية، وأنه إنما أراد فعلها إلى ذلك الوقت الذي نزل فيه الوحي بالنسخِ.

ومن ذلك: أنه إذا جاز أن يبتدىءَ التكليفَ بالعباداتِ بعد أن مضى زمانٌ لم يُكلِّفْ فيه فعلَ تلك العبادات، لِمَ لا يَجُوزُ (١) أن يُكَلِّفَ عبادةً، ثم يسقطَها عن المكلف؟ وما الفرقُ بين مَنْعِ التكليفِ قبل (٢) الابتداءِ به، ورَفْعِ استدامتِه بعدَ أن كَلَّفَ؟ والمنعُ كالرفع، والنفيُ قبل التشريع كالإزالةِ بعدَه، ولَمْ نَقُلْ: بدا له، فكلَّفَ بعدَ أن لم يكلِّف، كذلك لا يقال: بدا له، فأَسْقطَ العِبادةَ بعد أن كَلَّفَ.

ومن ذلك: أننا قد أجمعنا على أنَّه يجوزُ أن يُكلِّفَ الصحيحَ عبادةً وعباداتٍ عدة إلى أن يمرض، فإذا جاء المرضُ، أو عرض السفرُ، أو جاءَت العوائقُ، أسقطَ، أو خَفَّفَ، فبانَ أنه كَلَّفَ حال الصحةِ إلى غايةٍ هي المرضُ، فكشفَت العاقِبةُ عن الإسقاطِ في تلك الحال لِمَا كان وجبَ من العباداتِ قبلَها، وليسَ يظهرُ من ذلك إلا نوعُ مصلحةٍ، وتخفيفٌ بعد تشديد، فكذلك المُغيِّرُ لمصالحَ خَفِيَّةٍ


(١) في الأصل: "جاز".
(٢) في الأصل: "مثل".

<<  <  ج: ص:  >  >>