للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك لمَّا لم يُكَلِّفْ، ولم يخاطِب بالعباداتِ، ثم خاطبَ، لم نَقُلْ: إنهُ كانَ غيرَ مخاطِبٍ، وقد خاطبَ، فقد بدا لهُ، لكن يقالُ: إنه لَم يُخاطِب، وكانَ تركُه للخطابِ [إلى] أجلٍ معلومٍ، أظهرهُ الخطابُ في ذلك الوقتِ، فعُلمَ أنَّ تأخيرَهُ بإرادةٍ وعلمٍ، وخطابهُ في الوقت الثاني -بعد أن لم يخاطبْ- بإرادةٍ، لا أنه بحيث كانَ لا يريدُ الخطابَ، فبدا لهُ أمرٌ أوجبَ إرادةَ الخطابِ.

وكذلك إذا أَمرَ المكلفَ أمراً مطلقاً، ثم إنه أَعاقَ بالمرضِ، أو الموتِ، فإنا لا نقول: إن ذلك بداءٌ، بل أراد بأمرهِ له: العملَ به إلى تلكَ الغايةِ التي حصلت فيها الإعاقةُ؛ بما تجددَ وحدثَ.

وكذلكَ تغييرُ أحوالِ الدنيا الكليةِ؛ من جدبٍ إلى خِصبٍ، ومن توليةٍ إلى عزلٍ، ومن غنىً إلى فقرٍ، إلى أمثالِ ذلكَ من التغييراتِ الحادثةِ في العالم جميعه، فإن لم تُجَوِّزْ على الله سبحانه ذلكَ، لئلا يؤدي إلى ما ذكرت، فلا تُضف هذهِ التغييراتِ إليهِ؛ لأنَّ أمثالها إذا صدرَ عن مخلوقٍ من آحادِ الخلقِ ممن يجوزُ عليهِ البداءُ، كان بداءً.

ولأنا قد أجمعنا على أنه لو كشفَ سبحانهُ عن مقدارِ مدةِ العبادةِ، فقالَ. صلوا إلى بيتِ المقدس كذا كذا شهراً، ثم استقبلوا الكعبةَ، فإنه لا يكونُ ذلكَ بداءً، بلَ توقيتاً وتقديراً، فإذا أمرَ بالصلاةِ نحوَ بيتِ المقدسِ، ولم يقدرها بمدةٍ، لكنه أمرَ بالتحولِ إلى الكعبةِ بعدَ مدةٍ معلومةٍ، وهو (١) ممن ثبتَ بالدليلِ العقلي أنه لا يعلمُ شيئاً بعد أن لم يعلمه، وجبَ أن يُحملَ الأمرُ على ما يليقُ به، من أنه أرادَ


(١) أي: ربُّ العالمين الذي يستحيل شرعاً وعقلاً أن يثبت في حقه الجهلُ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>