للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والنبوةُ لا تنقل، إنما تنقل السِّيَرُ، فيتصفحُ المنقولُ إليه منها ما يَدُلُه على النبوة، كما أنَّ شجاعةَ عليٍّ لا تنقلُ، ولا سخاءَ حاتم، ولا فهاهة باقل، ولا فصاحةَ سحبان وائل، لكنْ تنقلُ إلينا أفعالُهم وأقوالُهم، فنستدلُّ بذلكَ على ما وراءها من. إثباتِ شجاعةٍ وفصاحةٍ وسخاوةٍ، والنُّبوَّة تنقل إلينا أعلامُها، فنعلمُ بذلكَ نبوةَ من ظهرت تلك الأعلامُ على يدِه، وقد نقل من طريق التواتر: أنَّ المبعوثَ بتهامة ظهرَ على يده أشياءُ في الجملةِ، أدهشت العقلاءَ حتى قالوا (١): سحرٌ، وما يقول القائلُ: سحرٌ، إلا لما يدهشه، وجاءَ بهذا الكلامِ الذي تَحَدَّى به العربَ، فعجزوا عنه، فكانَ عنادُهم لما جاءَ به استنطقهم بالتكذيب، ودعوى السحر والاختلاف، واحتجاجهم معلوم منقول، وهو مجرد الجحد بما لا يوجبُه، مثل قولهم: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: ٨] {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: ١٢] , {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: ٧]، والمنقولُ بالتواترِ قد عُلِمَ، كما عُلِمت شجاعةُ عليٍّ، فالطاعنُ على عليٍّ لم يدفع ما ثبتَ بالتواترِ؛ من أيامهِ المشهودة، ومبارزاتهِ المعلومة، لكن قالَ فيه: إنه ما طلب الحق، فكذلك قالَ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يأتِ بالحقِّ، لا أنهم أنكروا ما ظهر على يديهِ من الأمورِ الخارقةِ.

على أنَّ الردَّ لِمَا جاءَ به، والخلافَ فيه، لا يوجبُ نفيَ العلمِ، بدليلِ أنَّ لنا من جحدَ دركَ المحسوساتِ، وهم أصحاب سوفسطا، ولنا من أنكرَ ما عدا الضرورات، ولنا من أنكرَ العلمَ بغيرِ الأخبارِ، وهم مفسدو النظرِ والاستدلال، وزعم أن لا ثقة بنظر، وجعل العلةَ في نفي ذلكَ وقوعَ الخلافِ فيه، وتسلُّطَ الشكِّ عليه، ورجوعَ أهلِ


(١) في الأصل: "قال".

<<  <  ج: ص:  >  >>