للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا كان الخصمُ معروفاً بالمُجُونِ في الجدلِ، وقلةِ الاكتراث بما يقولُ وما يقالُ له، ليس غَرَضُه إقامةَ حُجَّةٍ ولا نُصْرةَ ديانةٍ، وإنما يريدُ المطالبة والمباهاةَ، وأن يقالَ: علا قِرْنَه وغلبَ خصمَه أو قطعَ خصمَه، فينبغي أن يُجتنَبَ وتُحذرَ مكالمتُه، فليس يحصُلُ بمناظرته دينٌ ولا دنيا، وربما أوْرَدَ على خصمه ما يُخجِلُه ولا يستحسنُ مكافأته عليه، فينقطِعُ في يَدِه، ويكونُ في انقطاعه فِتنةٌ لِمَنْ حضرَه.

وإذا كان الغرضُ بالجدل إدراكَ الحقِّ به، وكان السبيلُ إلى ذلك التثبُّتَ والتأمَّلَ، وجبَ على كلُّ واحدٍ من الخصمين استعمالُهما، وإِلا حصلا على مجرَّدِ الطلب مع حِرمانِ الظفَرِ، وحاجةُ كلِّ واحدٍ من الخصمين إلى التَّنبُّهِ على مَا يأتي به صاحبُه كحاجة الأخرِ إلى ذلك، قال بعض العلماءِ في هذا الشأنِ: العقلُ أطولُ رَقْدَةً من العَيْنِ، وأحْوَجُ إلى الشحْذِ (١) من السيفِ، وقد أحسنَ التشبيهَ؛ لأن العقلَ يحصُلُ به دَرْكُ الحقَّ كما يُدرَكُ بالعين الشخصُ، إلا أن حاجةَ العقلِ إلى التَّنبيهِ على الحقَّ أشدُّ من حاجة العين إلى التَنبيهِ على الشخص، ولربَّما أيقظَ العينَ من رَقْدَتِها لَكْزَةٌ (٢) أو كَلمةٌ تُوجِبُ اليَقَظةَ بسرعة، والعقلُ يحتاجُ في تنبيهه إلى عمل، وهو تخليصُ نظَرِه (٣) من آفاتِ النَظرِ المُعترِضةِ.


(١) الشحْذُ في الأصل: التحديد، يقال: شَحَذَ السكَين والسيف ونحوهما يَشحَذه شَحْذاً: أحَدَّه بالمِسَنِّ وغيره مما يُخرِجُ حده. "اللسان" (شحذ).
(٢) اللَّكْزُ: هو الضرب بجمْعِ اليد -أي قبضتها- في جميع البدن، أو في الصدر والعنق. "اللسان" (لكزا).
(٣) في الأصل: "نظيره".

<<  <  ج: ص:  >  >>