للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السماء الدنيا (١)، ثم نزل منجَّمًا بعد ذلك مرة إثر أخرى حتى استوفاه الله تعالى. فلما استوفاه استأثر الله برسول ورفعه إليه إلى الرفيق الأعلى، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قَامَ رَمضانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" (٢)، يريد بقوله: (إِيمَانًا) أن فرضه من عند الله، وأن عبادته فيه إنما هي لله تعالى إذ الأعمال كلها تحتمل أن تكون لله ولغيره، ولا عبرة بها إلا أن تكون لله على نية امتثال أمره والتقرّب إليه كمن توضأ تبرُّدًا لا يعتد به عبادة، وكذلك من صام إجمامًا لمعدته لا يعد عبادة، ولذلك قال علماء الحقائق أن الرجل إذا قال أصوم غدًا يقصد بذلك التطبب إنه لا يجزيه (٣) وكذلك لو قصد بالصلاة رياضة أعضائه لم يجز أيضًا حتى ينوي بذلك الخدمة لمن تجب له القربة.

وأما قوله: "احتسابًا" فمذهب المنقطعين إلى الله تعالى أن معناه يصومه لامتثال الأمر لا لطلب الأجر، ومن مذهبهم أن الإخلاص في العبادات إنما يكون بأن يطيع الرجل ربه محبه فيه لا يستجلب بذلك جنة ولا يدفع بذلك نارًا (٤)، ويروي في ذلك عن عمر بن


(١) يشير إلى قوله تعالى في سورة البقرة آية ١٨٥: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}.
(٢) متفق عليه أخرجه البخاري كتاب الصيام باب التماس ليلة القدر ٣/ ٥٩، ومسلم في صلاة المسافرين باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح ١/ ٥٢٤. والترمذي ٣/ ١٧١ - ١٧٢، وابن ماجه ١/ ٥٢٦، والبغوي في شرح السنة ٦/ ٢١٧ من رواية أبي هُرَيْرَة.
(٣) أقول: لقد أبعد هنا الشيخ النجعة في العزو إلى ما يسميهم علماء الحقائق وكان الأولى أن يعزو للحديث المتفق عليه "إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّات".
قال الإِمام ابن القيم: النية هي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي يبنى عليه، فإنها روح العمل وقائده وسائقه والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة. إعلام الموقعين ٤/ ١٩٩.
وقال النووي: الأعمال تحسب بنية ولا تحسب إذا كانت بلا نية. شرح النووي على مسلم ١٣/ ٥٤.
(٤) هذا القول الذي حكاه الشارح عمن يسميهم المنقطعين يرده كتاب الله قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: ٥٥] وقوله: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: ٩٠]، وقال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: ٥٧] وقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان: ٦٥] وقال: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: ١٦].
ويقول شيخ الإِسلام ابن تيمية تعليقًا على قول المتصوفة هذا: والمحبة ما لم تقترن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل تضره لأنها توجب التواني والانبساط، وربما آلت بكثير من الجهّال المغرورين إلى أن يستغنوا بها عن الواجبات، وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له فإذا =

<<  <   >  >>