للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أخذ فأما الطائفة الأولى الوعيدية فقد تعلقت بظواهر الآيات والآثار وهذا هو الذي دعا سالفة علمائنا المتكلمين رحمة الله عليهم إلى انكار العموم وقد بينا القول بصحته وأنه لا يحتاج إلى ذلك معهم فإن الحق ظاهر والأدلة بيّنه وحمل التقصير كثيراً من علمائنا على أن يقولوا أن الله تعالى لا ينفذ وعيده فإن ترك إنفاذ الوعيد من مكارم الأخلاق.

قال الشاعر:

وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إبعادي ومنجز موعدي (١)

وقد بيّنا أن ذلك إنما يتصور في المخلوق الذي يجوز له الكذب بعذر ويتصور منه على الإطلاق فأما الصادق الواجب الصدق فلا يجوز أن يقع مخبره بخلاف خبره ويتعالى الباري عزّ وجلّ عن الأخلاق الذميمة وإنما له الصفات العلية ومنها الصدق في الكلام لكن الآيات والأخبار وإن جاءت بإطلاق القول في الوعيد فقد جاءت أخر بإطلاق القول في الوعد كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله حرمه الله على النار) (٢) وبهذا تعلقت المرجئة.

وكقوله (إن بغياً من بني إسرائيل مرت بكلب يأكل الثرى من العطش فنزعت موقها وسقته من ركية (٣) فغفر الله لها) (٤).

وههنا نكت كثيرة بيانها في موضعها لا يخفى عليكم الآن منها نكتة بديعة وهي أن الباري تعالى رحيم شديد العقاب فلا بد أن يأخذ كل حكم من أحكام الصفتين جزءاً من الخلق تتحقق فيه الصفة وكذلك هو غفور منتقم فلا بد أن يكون للمغفرة جزء معلوم من الخلق وللإنتقام جزء معلوم وتحقيق ذلك الشفاعة فمن نظر إلى صفة من صفات الباري جل وعز وآمن بها وترك البواقي لا يكون مؤمناً بالله وكذلك من نظر إلى أخبار الوعد دون أخبار


(١) البيت لعامر بن الطفيل كما في لسان العرب ٣/ ٤٦٤.
(٢) رواه أبو داود في سننه (٣١١٦) والحكم في المستدرك ١/ ٣٥١ وقال صحيح الإسناد ورافقه الذهبي ورواه أحمد في المسند ٥/ ٢٣٣ من طريق صالح بن أبي عريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل مرفوعاً به وصالح هذا مقبول كما قال الحافظ في ت ص ٢٧٣ وقال في ت ت ٤/ ٣٩٨ روى عنه الليث وحيوة بن شريح وابن لهيعة وعبد الحميد بن جعفر الأنصاري وغيرهم والحديث صححه الحكم وأقره الذهبي وكذلك الشيخ ناصر في المشكاة ١/ ٥٠٩ ولكنه في إرواء الغليل ٣/ ١٤٩ حسنه ولعله الأقرب من أجل صالح بن عريب.
(٣) الركية بفح الراء وكسر الكاف وتشديد التحتانية البئر مطوية أو غير مطوية وغير المطوية يقال لها جب وقليب ولا يقال لها بئر حتى تطوى وقيل الركي البئر قبل أن تطوى فإذا طويت فهي الطوى. فتح الباري ٦/ ٥١٦.
(٤) البخاري في كتاب الأنبياء البخاري مع الفتح ٦/ ٥١١، وأحمد في المسند ٢/ ٥٠٧ من حديث أبي هريرة.

<<  <   >  >>