للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الصلح فمضى فيه الآن كفاية، لكن ذهب بعض العلماء إلى جمع هذه المذاهب والآثار، واختصار مكة بكة لم يختص به غيرها، فقال أبو عبيد: افتتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ومنَّ على أهلها وردها ولم يقسمها، ولم يجعل شيئاً منها غنيمة [ولا فيئاً] (١)، فرأى بعضهم أن ذلك جائز له ولغيره من الأئمة. قال: والذى أرى أنه خاص له فى مكة وليس ذلك لغيره فى غيرها أو مكة لا يشبهها شىء من البلاد، ولأن الله - سبحانه - خص رسوله من الأنفال بما لم يخص به غيره. وأنكر بعضهم قول أبى عبيد هذا وقول أبى يوسف: عفا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مكة وأهلها ولم يجعل شيئاً منها فيئاً. وقال أصحاب الشافعى أراد الشافعى بقوله: إن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة صلحاً، أى فعل فيها فعله فيمن صالحه فملكه نفسه وأرضه وماله؛ لأنه لم يدخلها إلا بعد أن أمن أهلها كلهم، وهذا من قول أصحابه اعتذار عن قوله الذى انفرد به، وميل إلى قول الجماعة من أن افتتاحها عنوة، وإنما من عليهم وعفا وملكهم أموالهم.

قال بعضهم: والصحيح أن مكة بلدة مؤمنة لم يجز فيها شىء من أحكام العنوة، ولا شىء. من أحكام الصلح فتتفق معانى المذاهب على هذا، وأن قول مالك والجمهور: دخلت عنوة، وأن هذا فى ابتداء أمرها، لأمر النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيوشه بقتل من لقوه وقاتلهم، وندائه بالأمان لمن دخل المسجد وأغلق عليه بابه، إلا من استثناه، وصورة هذا كله صورة العنوة والقهر، لا أن حكم العنوة جرى فى أهلها وأرضها وأموالهم بمن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم، وأن حالهم جرى فى هذا مجرى حال أهل الصلح لا أنهم عقدوا معه صلحاً؛ إذ لم يأت أثر فى شىء من هذا بمصالحتهم إياه، وبالله التوفيق.

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة: انظر لما أسلم أهل مكة من النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك لهم أموالهم ولم ينزل فى شىء لمنه عليهم بها ونزل فى الوادى، ولما أبطأت هوازن بإسلامها قسم الفىء بين أصحابه، ثم وهبهم سبيهم على استطابة نفوس أصحابه؛ لأنه مال الله لا شىء للغانمين فيه إلا أن يقسمه عليهم. وفيه الحجة لمذهب مالك.

قال القاضى: وقول الأنصار: " والله ما قلنا الذى قلنا إلا الضن بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": بكسر الضاد، أى البخل إن يرحل عنا، قال الله تعالى: {وَمَا هُو عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِين} (٢) فى قراءة من قرأه بالضاد، أى ببخيل. ومعناه هنا: محبة الاختصار به، والغيرة عليه أن يرجع إلى بلده. يقال: فلان ضنين من بين إخوانى، أى الذى اختص به، وأضن بمودته، ألا ترى قولهم: أدركته رغبة فى قربته ورأفة بعشيرته، وليس فى هذا ما يكون عليهم فيه إثم؛ إذ ليس فيه عيب للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا نقص له، بل هو من مكارم أخلاق الأشراف الحنين للأوطان. فأجابهم النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه وإن كان ذلك من رأفته بعشيرته وبلدته


(١) سقط من الأصل، والمثبت من س.
(٢) التكوير: ٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>