للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لهَا قَنَادِيلُ مُعَلقَةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأَوِىَ إِلَى تِلْكَ القَنَادِيلِ،

ــ

والنسمة تنطلق على ذات الإنسان جسماً وروحاً، وتنطلق على الروح مفرداً، وهو المراد بها هنا لتفسيرها فى هذا الحديث بالروح؛ لأن الجسم يفنى ويأكله التراب، ولقوله فى الحديث: " حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه "، وذكر فى حديث مالك: " نسمة المؤمن "، وقال: " هنا الشهداء "، فقيل: المراد: هناك الشهداء، إذ هذه صفتهم لقوله تعالى: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (١) حسبما فسره فى هذا الحديث، رخصة بهم، وأن غيرهم إنما يعرض عليه مقعده من الجنة أو النار بالغداة والعشى كما جاء فى حديث ابن عمر، وكما قال تعالى فى آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} (٢)، وقيل: بل المراد سائر المؤمنين المستوجبين لدخول الجنة دون عقاب، بدليل عموم الحديث وغير ذلك من الأحاديث، وقيل بل أرواح المؤمنين على أفنية قبورهم.

وقوله فى هذا الحديث: " فى جوف طير خضر "، وفى غير مسلم: " كطير خضر " (٣) وفى حديث آخر عن قتادة: " فى صور طير بيض " (٤): قال بعض المتكلمين على هذا: الأشبه صحة قول من قال: " طير " أو " صورة طير "، وهو أكثر ما جاءت به الروايات، لا سيما مع قوله: " وتأوى إلى قناديل تحت العرش "، وأبعد بعضهم هذا، ولم ينكره آخرون، وليس فيه ما ينكر، ولا بين الأمرين فرق، بل رواية " طير "، أو " أجواف طير " أصح معنى وأبين وجهاً، وليس بالأقيسة والعقول فى هذا تحكم، فكل من المجوزات. فإذا أراد الله أن يجعل هذه الروح إذا خرجت من المؤمن، والشهيد فى قناديل أو أجواف طير أو حيث يشاء كان ذلك، ولم يبعد، لا سيما مع القول: إن الأرواح أجسام، كما سنذكره ونذكر الخلاف فى ذلك، ولما أبعدنا أن تكون رواية أنها طير على ظاهره، إذ لو غيرت الأرواح عن حالها وصفاتها إلى صفات طيور خضر لم تكن حينئذ أرواحاً.

وأما على القول: إن الروح معنى وهى الحياة، فبعيدٌ أيضاً أن ترجع صورة طير؛ لأن المعانى لا تتجسم ولا تقوم بنفسها، وإنما تقوم بغيرها من أجسام يخلقها الله - تعالى - لذلك، وقد قيل على هذا: إن المعذب أو المنعم من الأرواح جزء من الجسد يبقى فيه الروح، فهو الذى يألم ويعذب، ويلتذ وينعم، وهو الذى يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ} (٥) وهو الذى يعلق بشجر الجنة، فغير مستحيل أن يصور ذلك الجزء طائراً، ويجعل فى جوف طائر وفى قناديل تحت العرش، وغير ذلك مما يريده الله تعالى على المعانى التى تقدم، والله أعلم بمراد نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


(١) آل عمران: ١٦٩.
(٢) غافر: ٤٦.
(٣) ابن ماجه، ك الجهاد، ب فضل الشهادة فى سبيل الله ٢/ ٩٣٦ (٢٨٠١).
(٤) عبد الرزاق، ك الجهاد، ب أجر الشهيد (٩٥٥٣).
(٥) المؤمنون: ٩٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>