للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

وقال بعض أهل المعانى: إنما ورد هذا الكلام مورد التمثيل والتقريب للإفهام ولسرعة تناول هذه الروح لما تريد من نعيم الجنة، وإدراك متناولها وما تشتهيه من لذاتها كسرعة طيران الطير، وقطعه المسافة البعيدة فى الزمن القصير.

وقد اختلف الناس فى الأرواح - ما هى؟ - اختلافاً لا يكاد ينحصر، فذهب كثير من أرباب المعانى وعلم الباطن، والمتكلمين إلى أنه مما لا تعرف حقيقته، ولا يصح وصفه، ومما جهل الخلق علمه، واستدلوا بقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} (١)، قالوا: وهو أمر ربانى إلهى. وغلا بعضهم فقال بقدمه، وهو مذهب الفلاسفة. وقال آخرون منهم - وهو قول جمهور الأطباء -: إنه البخار اللطيف السائد مع الدم. وعول كثير من شيوخنا أنه الحياة، وقال آخرون: الحياة معنى آخر، والروح غيره يبطل الجسد بفقده، وقال آخرون: هى أجسام لطيفة مشاركة للجسم يحيا بحياة الجسم، أجرى الله العادة بموت الجسم عند فراقه. وقيل: هو بعض الجسم، ولذلك وصف بالخروج والقبض وبلاغ الحلقوم، وهذه صفة الأجسام لا المعانى. وذهب بعض المتقدمين من أئمتنا إلى أنه جسم لطيف مصور على صورة الإنسان داخل الجسم. وذهب بعض مشايخنا وغيرهم إلى أنه النفس الداخل والخارج، وهذا خطأ بيّن، وقال آخرون: هو الدم، وهذا خطأ أيضاً.

وكذلك اختلفوا فى النفس، فقيل: هى الروح، لفظان لمعين واسمان لشىء واحد، وقيل: هى الدم، وقيل: النفس الداخل والخارج، وقيل: هى الحياة. ولا خلاف أنها تقع على ذات الشىء وحقيقته.

وأما قوله: " تعلق فى ثمار الجنة " (٢): فمن رواه بضم اللام فمعناه: تأكل وتصيب، وقيل: تتناول، ويؤيد هذا قوله فى الحديث: " تأكل ثمار الجنة، وترد أنهارها " (٣)، وكما قال فى الكتاب العزيز: {أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (٤)، وقيل: " تعلق " تشم، وهذا أشبه بالأرواح وتغذيها مجردة عن الأجسام، ولعل هذا هو معنى أكلها فى الحديث الآخر، ورزقها فى القرآن، ومن قاله بالفتح فمعناه الأول، وقيل: معناه: تتعلق وتقع عليها، وقيل: تأوى إليها، ويؤيده رواية: " تسرح ". وقد يكون الأكل والورود راجعاً إلى الجزء الذى تقوم به الروح على أحد الوجهين المتقدمين - والله أعلم.

وأما النسمة المذكورة فى الحديث الآخر فقيل: هى هنا الروح، والنسمة تقع على النفس والروح والبدن، وقال الخليل: النسمة: الإنسان، وفى الحديث: " لا والذى برأ


(١) الإسراء: ٨٥.
(٢) أبو داود، ك الجهاد، ب فى فضل الشهادة ٢/ ١٤، أحمد ٦/ ٣٨٦.
(٣) الترمذى، ك فضائل الجهاد، ب ما جاء فى ثواب الشهيد ٤/ ١٧٦، أحمد ١/ ٢٦٦.
(٤) آل عمران: ١٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>