للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

أنه أراد بقوله: " قدر علىَّ " من القدرة، فإنه من شك فى كون البارى - سبحانه - عارف به، وقد ذكر فى آخر الحديث أن الله تعالى قال له: " ما حملك على ما صنعت؟ قال: من خشيتك يارب - أو مخافتك - فغفر له بذلك "، والكافر لا يخشى الله ولا يغفر الله له. فإذا ثبت ألاّ يصح حمل الحديث على هذا المعنى فيحمل على أحد وجهين: إما أن يكون المراد به: لئن قدر على، بمعنى: قدر على العذاب. ويقال: قدر وقدر بمعنى واحد، أو يكون أراد: قدر على، بمعنى: ضيق على، قال الله تعالى: {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} (١)، وهكذا القول فى قوله تعالى: {فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ (٢)} (٣).

قال القاضى: قد اختلف فى تأويل قوله هذا، فقيل ما تقدم، وقيل: بل قال ما قاله وهو غير ضابط لكلامه ولا معتقد لظاهره، بل لما اعتراه من الخوف أو من الجزع الذى استولى عليه، فلذلك لم يؤاخذه به ولم يضبط قوله، كما لم يضبط الآخر فى الحديث المتقدم من شدة الفرح ودهش بغته السرور، وقوله: " أنت عبدى وأنا ربك " (٤) وقد قال فى غير مسلم: " فلعلى أضل الله " (٥) أى: أغيب عنه. وهذا يشعر أن قوله: " لئن قدر الله على " هناك على ظاهره المنكر، لا على ما تأول قبل، لكن العذر عنه ما ذكرناه. وقيل: بل هذا نوع من مجاز كلام العرب وبديع بلاغتها، سمى عند أهل النقد بتجاهل العارف، وسماه ابن المعتز فى " كتاب البديع ": مزج الشك باليقين، كقوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (٦) وقوله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} (٧)، وقول الشاعر:

[أأنت أم أمّ سالم] (٨)

فصورته صورة الشك، والمراد التحقيق، وقيل: بل هذا رجل جهل صفة من الصفات.

وقد اختلف فى جاهل الصفة، هل هو كافر أم لا؟ فمن كفره بذلك الطبرى، وقاله الأشعرى أولاً.

وذهبت طائفة أخرى إلى أن الجهل بالصفة لا يخرجه عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع الأشعرى قال: لأنه لم يعتقد اعتقاداً، فقطع بصوابه، ورآه ديناً وشرعاً، وإنما يكفر من اعتقد أن مقاله حق. قالوا ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات وبوحث عنها من


(١) الفجر: ١٦.
(٢) زيد بعدها في ز لفظة " أحد ".
(٣) الأنبياء: ٨٧.
(٤) رقم (٧) من هذا الكتاب.
(٥) أحمد ٥/ ٥، ومجمع الزوائد ١٠/ ١٩٥.
(٦) طه: ٤٤.
(٧) سبأ: ٢٤.
(٨) سقط من ز، والمثبت من ح.

<<  <  ج: ص:  >  >>