للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الوجه الثانى: أن يكون معنى " شطر الإيمان ": أَنَّ الإيمان يجُبُّ ما قبلَه من الآثام، وقد أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الوضوء - أيضاً - تذهب من (١) الإنسان الخطايا، إِلَّا أنه قد قام الدليل أن الوضوءَ لا يَصح الانتفاع به إِلَّا مع مُضامَّة الإيمان لَه، فكأنَّه لم يحصل به رفع الإثم إِلَّا مع شىءٍ ثانٍ، ولما كان الإيمان يمحُو الآثام المتقدمة عليه بانفرادِه، صار الطُّهورُ فى التشبيه كأنه على الشطر منه.

وفى هذا الحديثِ أيضاً حجةٌ على من يرى [أن] (٢) الوضوء لا يفتقر إلى نيَّةٍ (٣). وهذه المسألة مما اختلف الناس فيها على ثلاث مقالاتٍ، فقال الأوزاعى وغيره: الوضوء والتيمم جميعاً لا يفتقر إلى نية، وقال مالك فى المشهور عنه: إنهما يفتقران إلى نيَّةٍ (٤). وروى عن مالك قوله تارة (٥) أن الوضوء يُجزئ بغير نيَّةٍ (٦)، وقال أبو حنيفة: أما التيمُّم فلا بد فيه من نيةٍ، وأما الوضوء فلا (٧). فأما الأوزاعى ومن وافقه فيحتج بالأوامر التى وقعت بالوضوء ولم تُذكر فيها النية، ويحتج أيضاً بأن الوضوء ليس من العبادات كالصلاة وشبهها، وإنما وجب لغيره، وكان شرطاً (٨) فى صحته، فَحَلَّ مَحل غسل النجاسة وستر العورة، وشبه ذلك من شروط الصلاة المجزئة بغير نيةٍ، ويحتج مالك عليه بحديث: " الأعمال بالنيات " (٩) وبهذا الحديث المتقدم، وأنه لو لم يكن من أكبر العبادات لم يجعَلْه شطر الإيمان، فإذا أوجب ذلك كونه عبادةً افتقر إلى نيةٍ عند المخالف وعندنا، وعليه من الحجاج كثير، وأما تفرقة أبى حنيفة بين الوضوء والتيمم فضعيفةٌ؛ لأن البدل إذا افتقر إلى نيةٍ فأحرى أن يفتقر المبدلُ منه (١٠)، وأشبه ما وجه له به قول الله


(١) فى المعلم: " عن ".
(٢) من المعلم.
(٣) يعنى بهم الأحناف، حيث ذهبوا إلى أن الماء مطهر بذاته؛ مستدلين لذلك بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨].
(٤) قال ابن القاسم: لا يكون الوضوء عند مالك إِلَّا بالنية. راجع: المدونة الكبرى ١/ ٣٢.
(٥) فى المعلم: شاذة.
(٦) هذا فى النافلة - المدونة ١/ ٣٢.
(٧) لأن التيمم ليس بطهارة حقيقية، وإنما جعل طهارة عند الحاجة، والحاجة إنما تعرف بالنية بخلاف الوضوء؛ لأنه طهارة حقيقية فلا يشترط له الحاجة ليصبر طهارة، فلا يشترط له النية. وذكر الجصاص أنه لا يجب فى التيمم نية التطهير، لىانما يجب نيَّة التمييز، وهو أن ينوى الحدث أو الجنابة؛ لأن التيمم لهما يقع على صفة واحدة، فلا بد من التمييز بالنية كما فى صلاة الفرض أنه لابد فيها من نية الفرض؛ لأن الفرض والنفل يتأديان على هيئة واحدة. راجع: بدائع الصنائع ١/ ١٩٦.
(٨) هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. وذلك كحولان الحول فى الزكاة، فإنه يلزم من عدمه عدم وجوب الزكاة، ولا يلزم من وجوده وجوبها لاحتمال عدم النصاب، ولا عدم وجوبها لاحتمال وجود النصاب عند حولان الحول. انظر: شرح تنقيح الفصول ٨٢، جمع الجوامع ٢/ ٢٠.
(٩) جزء حديث متفق عليه، أخرجه البخارى فى أكثر من موضع، منها: ك بدء الوحى (١) وك الإيمان (٥٤)، ومسلم، ك الإمارة، ب إنما الأعمال بالنية (١٥٥)، والنسائى فى الطهارة، ب النية فى الوضوء ١/ ٥١، وفى الطلاق، وأخرجه ابن ماجة فى الزهد، ب النية ٢/ ١٤١٣.
(١٠) ليس بلازم، وإنما افتقر البدل عندهم إلى نية لضعفه كما قدمنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>