للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

({وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: ١٤٦]) أي فكيف يعذّب الميت ببكاء غيره بعد أن مات، وانقطع عمله أصلاً، فاستبعدت - رضي اللَّه عنها - الحديث، لكونها رأته مخالفًا للآية المذكورة، لكن الصواب أن الحديث صحيح، فقد جاء من وجوه كثيرة، فالوجه حمله على ما إذا تسبب لذلك بوجه، أو رضي به حالة الحياة، فبذلك يندفع التدافع بينه وبين الآية المذكورة. واللَّه تعالى أعلم.

وقال القرطبي -رحمه اللَّه تعالى-: أنكرت عائشة - رضي اللَّه عنها - هذا الحديث، وصرحت بتخطئة الناقل، أو نسيانه، وحَمَلَها على ذلك أنها لم تسمعه كذلك، وأنه معارَضٌ بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وهذا فيه نظر، أما إنكارها، ونسبة الخطأ لراويه فبعيد، وغير بيِّنٍ، ولا واضح، وبيانه من وجهين:

أحدهما: أن الرواة لهذا المعنى كثيرون: عمر، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وقَيْلَة بنت مَخْرَمَة، وهم جازمون بالرواية، فلا وجه لتخطئتهم، وإذا أُقدِم على ردّ خبر جماعة مثلِ هؤلاء، مع إمكان حمله على محمل صحيح، فلأن يُردّ خبر راو واحد أولى، فردّ خبرها أولى، على أن الصحيح أن لا يُرد واحد من تلك الأخبار، ويُنظر في معانيها، كما نُبيِّنه.

ثانيهما: أنه لا معارضة بين ما روت هي، ولا ما رووا هم، إذ كلّ واحد منهم أخبر عما سمع وشاهَدَ، وهما واقعتان مختلفتان، وأما استدلالها على ردّ ذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلا حجة فيه، ولا معارضة بين هذه الآية والحديث، على ما نُبدِيه من معنى الحديث، إن شاء اللَّه تعالى.

وقد اختلف العلماء فيه، فقيل: محمله على ما إذا كان النَّوْح من وصيّته وسنته، كما كانت الجاهلية تفعل، حتى قال طرفة: إِذَا مِتُّ فَأنعِينِي البيت. وقد جمع عبد المطلب بناته عند موته، وأمرهنّ أن ينعينه، ويَندُبنه، ففعلن، وأنشدت كلّ واحدة منهنّ شعرًا تمدحه فيه، فلما فرغن قال آخر ما كلّمهنّ: أحسنتنّ، هكذا فانعيننى، وإلى هذا نحا البخاريّ، وقيل: معناه أن تلك الأفعال التي يُبكَى بها الميت مما كانوا يفعلونه في الجاهلية، من قتل النفس، وأخذ المال، وإخراب البلاد، وغير ذلك، فأهله يمدحونه بها، ويُعدّدونها عليه، وهو يُعذب لسببها، وعلى هذا تُحمل رواية من رواه: "ببعض بكاء أهله"، إذ ليس كلّ ما يُعدّدونه من خصاله مذمومًا، فقد يكون من خصاله كَرَمٌ، وإعتاق رقاب، وكشف كرب، إلى آخر كلام القرطبيّ وقد تقدّم خلاصته (١).


(١) - "المفهم" ج ٢ ص ٥٨١ - ٥٨٣.