للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قال الخطّابيّ -رحمه اللَّه تعالى-: لفظ "الظهر" يَرِد في مثل هذا إشباعًا للكلام، والمعنى أفضل الصدقة ما أخرجه الإنسان من ماله بعد أن يستبقي منه قدر الكفاية، ولذلك قال بعده: "وابدأ بمن تعول".

وقال البغوي -رحمه اللَّه تعالى-: المراد غِنًى يَستظهِر به على النوائب التي تنوبه، ونحوه قولهم: ركب متن السلامة. والتنكير في قوله: "غنى" للتعظيم، هذا هو المعتمد في معنى الحديث. وقيل: المراد خير الصدقة ما أغنيت به من أعطيته عن المسألة.

وقيل: "عن" للسببية، و"الظهر" زائد، أي خير الصدقة ما كان سببها غنى في المتصدِّقِ.

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: مذهبنا أن التصدّق بجميع المال مستحبّ لمن لا دين عليه، ولا له عيالٌ لا يصبرون، ويكون هو ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم يجمع هذه الشروط فهو مكروه (١).

وقال القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- في "المفهم": قوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى": أي ما كان من الصدقة بعد القيام بحقوق النفس، وحقوق العيال. وقال الخطّابيّ: أي متبرّعًا، أو عن غنًى يعتمده، ويستظهر به على النوائب. والتأويل الأول أولى، غير أنه يبقى علينا النظر في درجة الإيثار التي أثنى اللَّه بها على الأنصار، إذ قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} الآية [الحشر: ٩]. وقد روي أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من الأنصار ضافه ضيفٌ، فنَوّمَ صبيانه، وأطفا السّراج، وآثر الضيف بقوتهم (٢). وكذلك قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} الآية [الإنسان: ٨]. أي على شدّة الحاجة إليه، والشهوة له، ولا شكّ أن صدقةَ مَن هذه حاله أفضل. وفي حديث أبي ذرّ - رضي اللَّه عنه -: "أفضل الصدقة جهد مقلّ" (٣). وفي حديث أبي هريرة - رضي اللَّه عنه -: "سبق درهم مائة ألف … " (٤).

فقد أفاد مجموع ما ذكرنا أن صدقة المؤثر، والمقلّ أفضل، وحينئذ يثبت التعارض بين هذا المعنى، وبين قوله: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" على تأويل الخطّابيّ، فأما على ما أولنا به الغنى، فيرتفع التعارض.

وبيأنه أن الغِنَى يُعنى به في الحديث حصول ما تُدفع به الحاجة الضروريّة، كالأكل


(١) - "فتح" ج٤ ص ٤٧ - ٤٨.
(٢) - أخرجه البخاريّ في "صحيحه" في تفسير "سورة الحشر".
(٣) - صحيح تقدّم للمصنّف قبل ثلاثة أبواب، بلفظ "فأي الصدقة أفضل؟ قال: " جهد المقلّ".
(٤) - صحيح، تقدم في الباب المذكور أيضًا.