للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

ثمّ تبيّن له أن كلهم من مضر، فأخبر به، فـ "بل" للإضراب الانتقاليّ، تجعل ما قبلها كالمسكوت عنه، وتنقل الحكم إلى ما بعدها، كما هو مقرّرٌ في محلّه من كتب النحاة (فَتَغَيَّرَ) وفي رواية مسلم: "فتمعّر"، وهو بالعين المهملة، بمعنى تغيّر (وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -، لِمَا رَأَى بهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ) أي الفقر والحاجة (فَدَخَلَ) أي دخل - صلى اللَّه عليه وسلم - بيته، ولعله لاحتمال أن يجد ما يدفع به فاقتهم (ثُمَّ خَرَجَ) لعله لم يجد في البيت شيئًا (فَأَمَرَ بِلَالًا) - رضي اللَّه تعالى عنه - أن يؤذّن (فَأَذنَ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أي ثم أمره بالإقامة، فأقام. وفي نسخة "وأقام" بالواو (فَصَلَّى) أي صلّى النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - إماما للناس (ثُمَّ خَطَبَ) فقرأ - صلى اللَّه عليه وسلم - في خطبته أول سورة النساء؛ تذكيرًا لهم أنهم كلهم من أصل واحد، فينبغي لهم أن يَعطِف بعضُهم على بعض (فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} أمر اللَّه تعالى خلقَهُ بتقواه، وهي عبادته وحده، لا شريك له، ونبّههمَ على قدرته التي خلقهم بها (مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) وهي آدم - عليه السلام - (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وهي حوّاء - عليها السلام -، خُلقت من ضِلْعه الأيسر من خلفه، وهو نائمٌ، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأنس إليها، وأنست إليه.

وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خُلقت من ضِلَع، وإن أعوج شيء في الصلاة أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن استمتعت بها استمتعت بها، وفيها عوج" (وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) أي وذَرَأَ من آدم وحوّاء رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم، وصفاتهم، وألوأنهم، ولغاتهم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوه بطاعتكم إياه (الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ) حيث تقولون: أسألك باللَّه (وَالْأَرْحَامَ) بالنصب أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، بل بِرّوها، وصِلُوها. وقرأ بعضهم: {بالأرحام} بالجرّ عطفًا على الضمير في "به"، أي تساءلون باللَّه، وبالأرحام {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: ١]) أي مراقب لجميع أحوالكم، وأعمالكم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: ٦] وفي الحديث الصحيح: اعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، وهذا إرشاد، وأمر بمراقبة الرقيب، وإنما ذكر اللَّه أنّ أصل الخلق من أب واحد، وأمّ واحدة؛ لِيُعَطِّفَ بعضَهُم على بعض، ويحثّهم على ضعفائهم (١).

وهذا هو سبب قراءة النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - لهذه الآية في هذه المناسبة، حيث إنها أبلغ في تثبيت الأخوّة بين المؤمنين، وقوّة ترابطهم جنسًا، وعقيدةً، المقتضي لعطف بعضهم على بعض. واللَّه تعالى أعلم.


(١) - راجع "تفسير ابن كثير" -رحمه اللَّه تعالى- أول "سورة النساء" بتغيير يسير.