للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القاضي عياض: وهذا عامّ مخصوص، وتقديره: "من خير الناس"، وإلّا فالعلماء الذين حملوا الناس على الشرائع، والسنن، وقادوهم إلى الخير أفضل، وكذا الصدّيقون، كما جاءت به الأحاديث، ويؤيّده أن في رواية للنسائيّ: "إن من خير الناس رجلًا عَمِلَ في سبيل اللَّه على ظهر فرسه" بـ "من" التي للتبعيض انتهى.

وقال الحافظ: وفي رواية للحاكم: سئل أَيُّ المؤمنين أكمل إيمانًا؟، قال: "الذي يجاهد في سبيل اللَّه بنفسه، وماله الخ". وكأنّ المراد بالمؤمن من قام بما تعين عليه القيام به، ثمّ حصّل هذه الفضيلة، وليس المراد من اقتصر على الجهاد، وأهمل الواجبات العينيّة، وحينئذ فيظهر فضل المجاهد؛ لما فيه من بذل نفسه، وماله للَّه تعالى، ولما فيه من النفع المتعدّي (١) (مَنْزِلًا) قال الباجيّ: أي أكثرهم ثوابًا، وأرفعهم درجةً.

(قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَجُلٌ) بالرفع خبر لمبتدإ محذوف، أي هو رجلٌ (آخِذٌ) صفة لـ "رجل" (بِرَأْسِ فَرَسِهِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-) كناية عن مداومة الجهاد.

وفي رواية "الموطّإ": "رجل آخذ بعنان فرسه، يجاهد في سبيل اللَّه". ولفظ الترمذيّ: "ممسكٌ بعنان فرسه". و"العِنَان" -بالكسر-: اللَّجَام.

قال الباجيّ: يريد- واللَّه أعلم- أنه مواظبٌ على ذلك، ووصفه بأنه آخذ بعنان فرسه، يجاهد في سبيل اللَّه بمعنى أنه لا يخلو في الأغلب من ذلك، راكبًا له، أو قائدًا معظم أمره، ومقصوده من تصرّفه، فوصف بذلك جميع أحواله، وإن لم يكن آخذًا بعنان فرسه في كثير منها انتهى (حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يُقْتَلَ، وَأَخْبِرُكُمْ بِالَّذِي يَلِيهِ") أي يتّبعه في الخيريّة، وفي رواية الترمذيّ: "بالذي يتلوه". وفي رواية "الموطّإ": "ألا أُخبركم بخير الناس منزلّا بعده". قال الباجيّ -رحمه اللَّه تعالى-: وصف رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم - أفضل المنازل، ونصّ عليها، ورغّب فيها من قَوِيَ عليها، وأخبر بعد ذلك من قَصَرَ عن هذه الفضيلة، وضَعُف عنها، فليس كلّ الناس يستطيع الجهاد، ولا يقدر على أن يكون آخذًا بعِنَان فرسه فيه، ففي الناس الضعيف، والكبير، وذو الحاجة، والفقير انتهى (قُلْنَا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ") خبر لمحذوف: أي هو رجلٌ معتزل، بصيغة اسم الفاعل من اعتزل عن الناس: إذا انفرد عنهم، أي متباعدٌ عن الناس، منفرد عنهم (فِي شِعْبٍ) -بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة-: هو الطريق، أو الطريق في الجبل، والجمع شِعَاب -بالكسر أيضًا. والمراد أنه منفرد عن الناس في موضع خال من


(١) - راجع "الفتح" ج ٦ ص ٨١.