للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وأما قول الحافظ: ويبقى النظر في أن الاستئمار، هل هو شرط في صحّة العقد، أو مستحبّ على معنى استطابة النفس، كما قال الشافعيّ؟ كلٌّ من الأمرين محتمل انتهى.

ففيه نظر لا يخفى؛ إذ الاحتمال الثاني -وهو الاستحباب- ضعيف؛ لمخالفته لظواهر الأحاديث المذكورة؛ وأما حديث أبو داود المذكور، فلا يصلح للاحتجاج به؛ لأنه ضعيف، كما مرّ آنفًا، فالاحتمال الأول -وهو كون الاستئمار شرطًا في صحّة العقد- أقوى، لظواهر الأحاديث.

وقد حقّق المسألة العلامة ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى-، فقال في "الهدي" - بعد ذكر حديث الاستئذان: ما نصّه: وموجب هذا الحكم أنه لا تُجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تُزوّج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف، ومذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين اللَّه به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول اللَّه - صلى اللَّه عليه وسلم -، وأمره، ونهيه، وقواعد شريعته، ومصالح أمّته.

أما موافقته لحكمه، فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة، وليس رواية هذا الحديث مرسلةً بعلّة فيه، فإنه قد روي مسندًا، ومرسلًا، فإن قلنا بقول الفقهاء: إن الاتصال زيادة، ومن وصله مقدّمٌ على من أرسله، فظاهر، وهذا تصرّفهم في غالب الأحاديث، فما بال هذا، خرج عن حكم أمثاله، وإن حكمنا بالإرسال، كقول كثير من المحدّثين، فهذا مرسلٌ قويّ، قد عضدته الآثار الصحيحة الصريحة، والقياس، وقواعد الشرع- كما سنذكره- فيتعيّن القول به.

وأما موافقة هذا القول لأمره، فإنه قال: "والبكر تُستأذن"، وهذا أمرٌ مؤكّد؛ لأنه بصيغة الخبر الدّالّ على تحقّق المخبر به، وثبوته، ولزومه، والأصل في أوامره - صلى اللَّه عليه وسلم - أن تكون للوجوب، ما لم يقم إجماع على خلافه.

وأما موافقته لنهيه، فلقوله: "لا تُنكح البكر حتى تُستأذن"، فأمر، ونهى، وحكم بالتخيير، وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق.

وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرّف أبوها في أقلّ شيء من مالها إلا برضاها (١)، ولا يُجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرقّها، ويُخرج بُضعها منها بغير رضاها إلى من يريده هو، وهي من أكره الناس


(١) قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: في هذا الإطلاق نظر لا يخفى؛ لأن الأب يجوز له أن يأكل من مال ولده إذا احتاج إليه بغير رضاه؛ للحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد، وأصحاب السنن، من حديث عائشة - رضي اللَّه تعالى عنها -، مرفوعًا: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه"، والبنت يشملها الولد. فتنبّه.