للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

شيء وأقلّه، والأحكام إنما هي للغالب الكثير، والنادر في حكم المعدوم.

وأما قصّة من ولدت امرأته غلاما أسود، فهو حجة عليكم؛ لأنها دليلٌ على أن العادة التي فطر اللَّه عليها الناس اعتبار الشبه، وأن خلافه يوجب ريبة، وأن في طباع الخلق إنكار ذلك، ولكن لما عارض ذلك دليلٌ أقوى منه، وهو الفراش، كان الحكم للدليل القويّ، وكذلك نقول نحن وسائر الناس: إن الفراش الصحيح إذا كان قائمًا، فلا يعارض بقافة، ولا شبه، فمخالفة ظاهر الشبه لدليل أقوى منه -وهو الفراش- غير مستنكر، وإنما المستنكر مخالفة هذا الدليل الظاهر بغير شيء.

وأما تقديم اللعان على الشبه، وإلغاء الشبه مع وجوده، فكذلك أيضًا هو من تقديم أقوى الدليلين على أضعفهما، وذلك لا يمنع العمل بالشبه مع عدم ما يعارضه، كالبيّنة تُقدّم على اليد، والبراءة الأصلية، ويُعمل بهما عند عدمهما.

وأما ثبوت نسب أسامة من زيد بدون القيافة، فنحن لم نُثبت نسبه بالقيافة، والقيافةُ دليل آخر موافقٌ لدليل الفراش، فسرور النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم -، وفرحه بها، واستبشاره لتعاضد أدلّة النسب، وتضافرها، لا لإثبات النسب بقول القائف وحدَه، بل هو من باب الفرح بظهور أعلام الحقّ، وأدلّته، وتكاثرها، ولو لم تصلح القيافة دليلاً لم يَفرَح بها، ولم يُسَرّ، وقد كان النبيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - يفرح ويُسرّ، إذا تعاضدت عنده أدلّة الحقّ، ويُخبر بها الصحابة، ويُحبّ أن يسمعوها من المخبر بها؛ لأن النفوس تزداد تصديقًا بالحقّ، إذا تعاضدت أدلّته، وتُسرّ به، وتفرح، وعلى هذا فطر اللَّه تعالى عباده، فهذا حكم اتفقت عليه الفطرة والشِّرْعَة، وباللَّه تعالى التوفيق. انتهى كلام ابن القيّم -رحمه اللَّه تعالى- باختصار، وإن أردت الزيادة من احتجاجاته الكثيرة المفيدة، فارجع إلى كتابه "زاد المعاد" (١).

قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: قد تبيّن بما تقدّم من الأدلة أن المذهب الصحيح في مسألة العمل بالقائف، هو مذهب الجمهور المثبتين له؛ لوضوح حجته، وقوّتها. واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

٣٥٢١ - (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ, قَالَ: أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ, عَنِ الزُّهْرِيِّ, عَنْ عُرْوَةَ, عَنْ عَائِشَةَ, - رضي اللَّه عنها - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى اللَّه عليه وسلم -, ذَاتَ يَوْمٍ, مَسْرُورًا, فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ, أَلَمْ تَرَيْ, أَنَّ مُجَزِّزًا الْمُدْلِجِيِّ, دَخَلَ عَلَيَّ, وَعِنْدِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ, فَرَأَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَزَيْدًا, وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ, وَقَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا, وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا,


(١) "زاد المعاد في هدي خير العباد" ٥/ ٤١٨ - ٤٢٣.