للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وقال القاضي عياضٌ -رحمه اللَّه تعالى-: معناه أن عمل الميت منقطع بموته، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها، من اكتساب الولد، وبثّه للعلم عند من حمله عنه، أو إيداعه تأليفًا بقي بعده، وإيقافه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت، ووجدت. انتهى (١).

وقال النوويّ -رحمه اللَّه تعالى-: قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وتجدّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلّفه، من تعليم، أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية، وهي الوقف. انتهى (٢).

وقال أبو العبّاس القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى-: هذه الثلاث الخصال إنما جرى عملها بعد الموت على من نُسبت إليه؛ لأنه تسبب في ذلك، وحرص عليه، ونواه، ثم إن فوائدها متجدّدة بعده دائمة، فصار كأنه باشرها بالفعل، وكذلك حكم كلّ ما سنّه الإنسان من الخير، فتكرّر بعده، بدليل قوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "من سنّ سنّةً في الإسلام حسنة، كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامه". رواه مسلم. وإنما خصّ هذه الثلاثة بالذكر في هذا الحديث؛ لأنها أصول الخير، وأغلب ما يَقصد أهل الفضل بقاءه بعدهم، والصدقة الجارية بعد الموت هي: الْحُبُسُ، فكان حجةً على من يُنكر الْحُبُس. وفيه ما يدلّ على الحضّ على تخليد العلوم الدينيّة بالتعليم، والتصنيف، وعلى الاجتهاد في حمل الأولاد على طريق الخير والصلاح، ووصيّتهم بالدعاء عند موته، وبعد الموت. انتهى كلام القرطبيّ -رحمه اللَّه تعالى- (٣).

(مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ) بدل تفصيل من مجمل "ثلاثة"، ومعنى "جارية": أي غير منقطعة، كالوقف، أو ما يُديم الوليّ إجراءها عنه، وإليه يميل ترجمة المصنّف، كأبي داود -رحمهما اللَّه تعالى-. وقيل: لبقاء ثمرات الأعمال بقي ثوابها (وعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ) أي كأن يعلّم شخصَا، فيقوم ذلك الشخص بنشر ذلك العلم بعدموته، أو يصنّف كتابًا، فينتفع به الناس بعد موته.

وذكر القاضي تاج الدين السبكيّ: أن حمل العلم المذكور على التأليف أقوى؛ لأنه أطول مدّة، وأبقى على ممرّ الزمان، ورأيت من تكلّم على هذا الحديث في كرّاسة، قال الأخنائيّ في "كتاب البُشْرَى بما يلحّق الميت من الثواب في الدار الأخرى": قوله: "وعلم يُنتفع به" هو ما خلّفه من تعليم، أو تصنيف، ورواية، وربّما دخل في ذلك نَسْخُ


(١) "زهر الربى" ٦/ ٢٥١.
(٢) "شرح مسلم" ١١/ ٨٧ - ٨٨.
(٣) "المفهم" ٤/ ٥٥٤ - ٥٥٥. "كتاب الوصايا".