للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

في "شرح الترمذيّ". ولَمّا نقل ابن الرفعة عن أكثر الشافعيّة كراهة النذر، وعن القاضي حسين المتولي بعده (١)، والغزاليّ أنه مستحبّ؛ لأن اللَّه أثنى على من وفي به، ولأنه وسيلة إلى القربة، فيكون قربة. قال: ويمكن أن يتوسّط، فيقال: الذي دلّ عليه الخبر على كراهته نذر المجازاة, وأما نذر التبرّر، فهو قربة محضة؛ لأن للناذر فيه غرضًا صحيحًا، وهو أن يثاب عليه ثواب الواجب، وهو فوق ثواب التطوّع. انتهى.

وجزم القرطبيّ في "المفهم" يحمل ما ورد في الأحاديث من النهي على نذر المجازاة، فقال: هذا النذر محلّه أن يقول مثلاً: إن شفى اللَّه مريضي، فعليّ صدقة كذا. ووجه هذا الكراهة أنه لَمّا وقّف فعل هذه القربة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحّض له نية التقرّب إلى اللَّه تعالى بما صدر منه، بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضّحه أنه لو لم يُشف مريضه لم يتصدّق بما علّقه على شفائه، وهذه حالة البخيل، فإنه لا يُخرج من ماله شيئًا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبًا، وهذا المعنى هو الذي أشار إليه بقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "إنما يُستخرج به من البخيل ما لم يكن البخيل يُخرجه"، قال: وقد ينضمّ إلى هذا اعتقاد جاهل يظنّ أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن اللَّه تعالى يفعل معه ذلك الغرض لأجل ذلك النذر، وإليهما الإشارة بقوله - صلى اللَّه عليه وسلم -: "فإن النذر لا يردّ من قدر اللَّه شيئًا"، والحالة الأولى تقارب الكفر، والثانية خطأٌ صريح. قال الحافظ: بل تقرب من الكفر أيضًا.

ثم نقل القرطبيّ عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة، وقال: الذي يظهر لي حمله على التحريم في حقّ من يُخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد، فيكون إقدامه على ذلك محرّمًا، والكراهة في حقّ من لم يعتقد ذلك. انتهى. قال الحافظ: وهو تفصيلٌ حسن، ويؤيّده قصَّة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر، فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبريّ بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، قال: كانوا ينذرون طاعة اللَّه من الصلاة والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض اللَّه عليهم، فسمّاهم اللَّه أبرارًا. وهذا صريحٌ في أن الثناء وقعَ في غير نذر المجازاة. وقد يُشعر التعبير بالبخيل أن المنهيّ عنه من النذر ما فيه مال، فيكون أخصّ من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة، كما في الحديث المشهور: "البخيل من ذُكرتُ عنده، فلم يُصلّ عليّ". أخرجه النسائيّ، وصححه ابن حبّان، أشار إلى ذلك الحافظ العراقيّ في "شرح الترمذيّ".


(١) عبارة فيها ركاكة، فلينظر.