للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وحدِيث ابن عبَّاس "لا تُدِيمُوا النَّظر إِلى المَجْذُومِين"، ثم قَالَ: إِنَّما أمرهُم -صلى الله عليه وسلم- بِالفِرار منْ الْمَجْذُوم، كما نهاهُم أن يُورِد المُمْرِض عَلَى المُصِحّ، شفقة عليْهِمْ، وخشية أن يُصِيب بعض منْ يُخالِطهُ الْمَجْذُوم الْجُذامُ، والصَّحِيح منْ الماشِية الْجَرَب، فيسبق إِلى بعض المسلمِين، أنَّ ذَلِكَ منْ الْعَدْوَى، فيُثبِت الْعَدْوَى الَّتِي نفاها -صلى الله عليه وسلم-، فأمَرَهُم بِتجنُّبِ ذَلِكَ شفقة مِتهُ، وَرَحْمَةً؛ ليسلموا منْ التَّصْدِيق بِإِثباتِ الْعَدْوَى، وبين لهُم أنّهُ لا يُعْدِي شيء شيئًا. قَالَ: وُيؤيِّد هَذَا أكله -صلى الله عليه وسلم-، مع الْمَجْذُوم ثِقةٌ بِاللهِ، وتوكُّلاً عَلَيْهِ، وساق حدِيث جابِر فِي ذَلِكَ، ثم قَالَ: وأمَّا نهيه عن إِدامة النظر إِلى الْمَجْذُوم، فيحْتمِل أن يكُون لأنَّ المجذُوم يَغْتَم، ويكره إِدْمان الصَّحِيح نظره إِليهِ؛ لِأنَّهُ قَلَّ منْ يكُون بِهِ داء، إِلا وهُو يكره أن يُطَّلع عَلَيْهِ. انتهى.

قَالَ الحافظ: وهذا الَّذِي ذكرهُ احتِمالاً، سبقهُ إِليهِ مالِك، فإِنَّهُ سُئِل عن هَذَا الحديث، فقال: ما سمِعت فِيهِ بِكراهِيةٍ، وما أدرِي ما جاء منْ ذَلِكَ، إِلا مخافة أن يقع فِي نَفْس المُؤمِن شَيْء.

وَقَالَ الطَّبرِيُّ: الصَّوّاب عِندنا القول بِما صح بِهِ الخبر، وأن لا عَدْوَى، وأنَّهُ لا يُصِيب نفسًا، إِلا ما كُتِب عليها، وأمَّا دُنُو عليل منْ صحِيح، فغير مُوجِب انتِقال العِلَّة لِلصَّحِيح، إِلا أَنَّهُ لا ينبغِي لِذِي صِحَّة الدُّنُو منْ صاحِب العاهة، الَّتي يكرهها النَّاس، لا لِتحرِيم ذَلِكَ، بل لِخشيةِ أن يظُنّ الصَّحِيح، أَنَّهُ لو نزل بهِ ذَلِكَ الدَّاء، أَنَّهُ مِن جِهة دُنُوهُ منْ العليل، فيقع فِيما أبطلهُ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- منْ الْعَدْوَى. قَالَ: وليس فِي أمره بِالْفِرَارِ منْ الْمَجْذُوم مُعارضة لِأكلِهِ معهُ؛ لأنَّهُ كَانَ يأمُر بِالأمرِ عَلَى سبِيل الإرشاد أحْيانًا، وعلى سبِيل الإباحة أُخْرى، وإنْ كَانَ أكثرُ الأوامِر عَلَى الإلزام، إِنَّما كَانَ يفعل ما نَهى عنهُ أحيانًا؛ لِبيانِ أنَّ ذَلِكَ ليْس حرامًا.

وَقَدْ سلك الطَّحَاوِيُّ فِي "معانِي الآثار" مسلك ابن خُزيمة فِيما ذكرهُ، فأورد حدِيث "لا يُورد مُمرِض عَلَى مُصِحّ"، ثم قَالَ: معناهُ أنَّ المُصِحّ قد يُصِيبهُ ذَلِكَ المَرَض، فيقُول الَّذِي أوردهُ، لو أنِّي ما أوردته عَلَيْهِ لم يُصِبهُ، منْ هَذَا المَرَض شَيْء، والواقِع أَنَّهُ لو لم يُورِدهُ لأصابهُ؛ لِكونِ الله تعالى قَدَّرَهُ، فنُهِي عَنْ إِيراده؛ لِهذِهِ العِلة الَّتِي لا يُؤمن غالِبًا منْ وُقُوعها فِي قلب المرء، ثم ساق الأحادِيث فِي ذَلِكَ، فأطْنَبَ، وجمع بَيْنَها بِنَحْوِ ما جَمعَ بهِ ابن خُزَيمة.

ولِذلِك قَالَ القُرطُبِيّ فِي "المُفْهِم": إنَّما نَهَى رسُول الله -صلى الله عليه وسلم- عَنْ إِيراد الْمُمْرِض عَلَى المُصِحّ، مخافة الوُقُوع فِيما وقع فِيهِ أهْل الجَاهِليَّة، منْ اعتِقاد الْعَدْوَى، أوْ مَخَافَة تَشْوِيش النُّفُوس، وتأثير الأوهام، وهُوَ نحو قوله: "فِرَّ منْ الْمَجْذُوم فِرَارك منْ الأَسَد"،