للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث، فقال قوم: كان هذا الحكم في الصدر الأول ثم نسخ. وهذا لا وجه له؛ لأن النسخ إنما يكون في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فأما في زمان عمر فلا وجه للنسخ؛ فإن الأحكام استقرت وانقطع الوحي، وإنما هو زمان الاجتهاد والرأي فيما بلغهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه نصٌ وتوقيف، كيف وقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: "أنه قال لرجل طلق امرأته ثلاثًا: حرمت عليك".

فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يفتي بخلافه، وأن عمر بن الخطاب يكون قد علم أن الحكم كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر شيئًا ثم يفعل بخلافه؛ ألا ترى أن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه مع صدق رجاله؛ لما فيه من الاختلاف على سائر الروايات عن ابن عباس. والله أعلم.

قالوا: ويشبه أن يكون معنى الحديث منصرفًا إلى طلاق البتة، وذلك أنه قد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ركانة أنه جعل البتة واحدة وكان عمر يراها واحدة ثم تتايع الناس في ذلك فألزمهم الثلاث، وإليه ذهب غير واحد من الصحابة وغيرهم منهم: علي وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة وعمر بن عبد العزيز والزهري، وبه قال مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد.

وهذا كصنيعه في حد شارب الخمر، فإنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر أربعين، ثم أن عمر لما رأى الناس تتايعوا في الخمر واستخفوا العقوبة عليها قال: "أرى أن تبلغ بها حد المفتري" يعني القاذف فجعلها ثمانين، وذلك بمحضر من ملأ من الصحابة فلا يبعد أن يكون الأمر في طلاق البتة مثله.

وقال أبو العباس بن سريج: يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من طلاق الثلاث؛ وهو أن يفرق بين اللفظ كأنه يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وكان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر، والناس على

<<  <  ج: ص:  >  >>