للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قَال الْبُخَارِيُّ ج١ص٦٧: وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ: «يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ إِلَى أَبِي رَزِينٍ، فَتَأتِيهِ بِالْمُصْحَفِ، فَتُمْسِكُهُ بِعِلَاقَتِهِ»

الشَّرْح:

(أَبُو وَائِل) هُوَ التَّابِعِيّ الْمَشْهُور صَاحب ابن مَسْعُود وأثره هَذَا وَصله بن أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ

قَوْلُهُ (يُرْسِلُ خَادِمَهُ) أَيْ جَارِيَتَهُ وَالْخَادِمُ يُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى

(إِلَى أَبِي رَزِينٍ) هُوَ التَّابِعِيُّ الْمَشْهُورُ أَيْضًا

(بِعِلَاقَتِهِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ أَيِ الْخَيْطِ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ كِيسُهُ وَذَلِكَ مُصَيَرٌ مِنْهُمَا إِلَى جَوَازِ حَمْلِ الْحَائِضِ الْمُصْحَفَ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ مَسِّهِ. فتح (١/ ٤٠٢)

مَذَاهِبُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَسْأَلَة:

اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ مَسُّ الْمُصْحَفِ لِغَيْرِ الطَّاهِرِ طَهَارَةً كَامِلَةً مِنَ الْحَدَثَيْنِ الأَصْغَرِ وَالأَكْبَرِ (١)

رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمِّدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلا نَعْلَمُ مُخَالِفًا فِي ذَلِكَ إِلا دَاوُدَ. (٢)

وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْجَنَابَةُ وَالْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ، فَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الأَحْدَاثِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ حَتَّى يَتَطَهَّرَ، إِلا مَا يَأتِي اسْتِثْنَاؤُهُ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}.

وَبِمَا فِي كِتَابِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَهْلِ الْيُمْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ " لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلا طَاهِرٌ ".

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقِيلَ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِغَيْرِ وُضُوءٍ، وَقَالَ الْقَلْيُوبِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَحَكَى ابْنُ الصَّلاحِ قَوْلا غَرِيبًا بِعَدِمِ حُرْمَةِ مَسِّهِ مُطْلَقًا. (٣)

وَلا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ مَسُّ الْمُصْحَفِ إِلَّا إِذَا أَتَمَّ طَهَارَتَهُ، فَلَوْ غَسَلَ بَعْضَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ لَمْ يَجُزْ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُتِمَّ وُضُوءَهُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يَجُوزُ مَسُّهُ بِالْعُضْوِ الَّذِي تَمَّ غَسْلُهُ. (٤)

مَسُّ الْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ لِلْمُصْحَفِ بِغَيْرِ بَاطِنِ الْيَدِ:

يُسَوِّي عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِبَاطِنِ الْيَدِ، وَبَيْنَ مَسِّهِ بِغَيْرِهَا مِنَ الأَعْضَاءِ، لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ لاقَى شَيْئًا، فَقَدْ مَسَّهُ إِلا الْحَكَمَ وَحَمَّادًا، فَقَدْ قَالا: يَجُوزُ مَسُّهُ بِظَاهِرِ الْيَدِ وَبِغَيْرِ الْيَدِ مِنَ الأَعْضَاءِ، لأَنَّ آلَةَ الْمَسِّ الْيَدُ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: يُمْنَعُ مَسُّهُ بِأَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ وَلا يُمْنَعُ مَسُّهُ بِغَيْرِهَا، وَنُقِلَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ عَنِ الزَّاهِدِيَّ أَنَّ الْمَنْعَ أَصَحُّ. (٥)

مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ وَمَا لا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ وَرَقِهِ:

ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَطَهِّرُ مَسُّ جِلْدِ الْمُصْحَفِ الْمُتَّصِلِ، وَالْحَوَاشِي الَّتِي لا كِتَابَةَ فِيهَا مِنْ أَوْرَاقِ الْمُصْحَفِ، وَالْبَيَاضِ بَيْنَ السُّطُورِ، وَكَذَا مَا فِيهِ مِنْ صَحَائِفَ خَالِيَةٍ مِنَ الْكِتَابَةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ لأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ وَحَرِيمٌ لَهُ، وَحَرِيمُ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ وَيَأخُذُ حُكْمَهُ. (٦)

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ. (٧)

حَمْلُ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ لِلْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبُهُ لأَوْرَاقِهِ وَكِتَابَتُهُ لَهُ

وذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالْقَاسِمِ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، إِلَى أَنَّهُ لا بَأسَ أَنْ يَحْمِلَ الْجُنُبُ أَوِ الْمُحْدِثُ الْمُصْحَفَ بِعِلاقَةٍ، أَوْ مَعَ حَائِلٍ غَيْرِ تَابِعٍ لَهُ، لأَنَّهُ لا يَكُونُ مَاسًّا لَهُ فَلا يَمْنَعُ مِنْهُ كَمَا لَوْ حَمَلَهُ فِي مَتَاعِهِ، وَلأَنَّ النَّهْيَ الْوَارِدَ إِنَّمَا هُوَ عَنِ الْمَسِّ وَلا مَسَّ هُنَا، قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: فَلَوْ حَمَلَهُ بِغِلافِ غَيْرِ مَخِيطٍ بِهِ، أَوْ فِي خَرِيطَةٍ - وَهِيَ الْكِيسُ - أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يُكْرَهْ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالأَوْزَاعِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ خَرَّجَهَا الْقَاضِي عَنْ أَحَمْدَ إِلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ ذَلِكَ، قَالَ الْمَالِكِيَّةُ: وَلا يَحْمِلْهُ غَيْرُ الطَّاهِرِ وَلَوْ عَلَى وِسَادَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، كَكُرْسِيِّ الْمُصْحَفِ، أَوْ فِي غِلافٍ أَوْ بِعِلاقَةِ، وَكَذَا قَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَصَحِّ عِنْدَهُمْ: لا يَجُوزُ لَهُ حَمْلُ وَمَسُّ خَرِيطَةٍ أَوْ صُنْدُوقٍ فِيهِمَا مُصْحَفٌ، أَيْ إِنْ أُعِدَّا لَهُ، وَلا يَمْتَنِعُ مَسُّ أَوْ حَمْلُ صُنْدُوقٍ أُعِدَّ لِلأَمْتِعَةِ وَفِيهِ مُصْحَفٌ.

وَلَوْ قَلَّبَ غَيْرُ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِعُودٍ فِي يَدِهِ جَازَ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ صَحَّحَ النَّوَوِيُّ جَوَازَ ذَلِكَ لأَنَّهُ لَيْسَ بِمَسٍّ وَلا حَمْلٍ، قَالَ: وَبَهْ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.

وَقَالَ التَّتَائِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَكْتُبُ الْقُرْآنَ عَلَى طَهَارَةٍ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ.

وَنُقِلَ عَنْ مُحَمِّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ الْمُحْدِثُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ بِالْيَدِ، لأَنَّهُ يَكُونُ مَاسًّا بِالْقَلَمِ.

وَفِي تَقْلِيبِ الْقَارِئِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِكُمِّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي هُوَ لابِسُهَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ اخْتِلافٌ. قَالَ ابْنُ عَابِدِينَ: وَالْمَنْعُ أَوْلَى لأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَابِعٌ لِلابِسِهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ.

وَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ وَضَعَ عَلَى يَدِهِ مِنْدِيلا أَوْ نَحْوَهُ مِنْ حَائِلٍ لَيْسَ تَابِعًا لِلْمُصْحَفِ وَلا هُوَ مِنْ مُلابَسِ الْمَاسِّ فَلا بَأسَ بِهِ، وَمَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَلَوِ اسْتَخْدَمَ لِذَلِكَ وِسَادَةً أَوْ نَحْوَهَا. (٨)

عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ عِنْدَ الْمَانِعِينَ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ لِلضَّرُورَةِ، قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ حَمْلُهُ لِخَوْفِ حَرْقٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ تَنَجُّسٍ أَوْ خِيفَ وُقُوعُهُ فِي يَدِ كَافِرٍ أَوْ خِيفَ ضَيَاعُهُ أَوْ سَرِقَتُهُ، وَيَجِبُ عِنْدَ إِرَادَةِ حَمْلِهِ التَّيَمُّمُ أَيْ حَيْثُ لا يَجِدُ الْمَاءَ، وَصَرَّحَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ. (٩)

مَنْ يُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ مَسِّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ:

أ - الصَّغِيرُ:

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلصَّغِيرِ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ، قَالُوا: لِمَا فِي مَنْعِ الصِّبْيَانِ مِنْ مَسِّهِ إِلا بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْحَرَجِ، لِمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلأَنَّهُ لَوْ مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ لأَدَّى إِلَى تَنْفِيرِهِمْ مِنْ حِفْظِ الْقُرْآنِ وَتَعَلُّمِهِ، وَتَعَلُّمُهُ فِي حَالِ الصِّغَرِ أَرْسَخُ وَأَثْبَتُ.

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: وَلا بَأسَ لِلْكَبِيرِ الْمُتَطَهِّرِ أَنْ يَدْفَعَ الْمُصْحَفَ إِلَى صَبِيٍّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ آخَرَ عِنْدَهُمْ إِلَى أَنَّ الصَّغِيرَ لا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ إِلا بِالطَّهَارَةِ، كَالْبَالِغِ. (١٠)

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لا يُمْنَعُ الصَّبِيُّ الْمُمَيِّزُ الْمُحْدِثُ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ مِنْ مَسِّ وَلا مِنْ حَمْلِ لَوْحٍ وَلا مُصْحَفٍ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ، أَيْ لا يَجِبُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِحَاجَةِ تَعَلُّمِهِ وَمَشَقَّةِ اسْتِمْرَارِهِ مُتَطَهِّرًا، بَلْ يُسْتَحَبُّ.

قَالُوا: وَذَلِكَ فِي الْحَمْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِالدِّرَاسَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِغَرَضٍ، أَوْ كَانَ لِغَرَضٍ آخَرَ مُنِعَ مِنْهُ جَزْمًا.

أَمَّا الصَّبِيُّ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ فَيَحْرُمُ تَمْكِينُهُ مِنْ ذَلِكَ لِئَلا يَنْتَهِكَهُ. (١١)

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَسُّ الْمُصْحَفِ، أَيْ لا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ تَمْكِينُهُ مِنْ مَسِّهِ، وَذَكَرَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْجَوَازِ وَهُوَ وَجْهٌ فِي الرِّعَايَةِ وَغَيْرِهَا.

وَأَمَّا الأَلْوَاحُ الْمَكْتُوبُ فِيهَا الْقُرْآنُ فَلا يَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَهُمْ مَسُّ الصَّبِيِّ الْمَكْتُوبِ فِي الأَلْوَاحِ، وَعَنْهُ يَجُوزُ، وَأَطْلَقَهُمَا فِي التَّلْخِيصِ.

وَأَمَّا مَسُّ الصَّبِيِّ اللَّوْحَ أَوْ حَمْلُهُ فَيَجُوزُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. (١٢)

ب - الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ وَنَحْوُهُمَا:

يَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْقُرْآنَ، أَوْ تُعَلِّمُهُ حَالَ التَّعْلِيمِ مَسَّ الْمُصْحَفِ سَوَاءٌ كَانَ كَامِلا أَوْ جُزْءًا مِنْهُ أَوِ اللَّوْحِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْجُنُبِ، لأَنَّ رَفْعَ حَدَثِهِ بِيَدِهِ وَلا يَشُقُّ، كَالْوُضُوءِ، بِخِلافِ الْحَائِضِ فَإِنَّ رَفْعَ حَدَثِهَا لَيْسَ بِيَدِهَا، لَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْجُنُبَ رَجُلا كَانَ أَوِ امْرَأَةً، صَغِيرًا كَانَ أَوْ بَالِغًا يَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ وَالْحَمْلُ حَالَ التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ لِلْمَشَقَّةِ.

وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْحَاجَةُ إِلَى الْمُصْحَفِ لِلْمُطَالَعَةِ، أَوْ كَانَتْ لِلتَّذَكُّرِ بِنِيَّةِ الْحِفْظِ. (١٣)

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسِّ الْمُحْدِثِ كُتُبَ التَّفْسِيرِ:

قَالَ الْحَنَفِيَّةُ: لا يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ لأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ وَقَالَ فِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: وَيُكْرَهُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالسُّنَّةِ وَلا بَأسَ بِمَسِّهَا بِالْكُمِّ. (١٤)

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: يَجُوزُ مَسُّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَحَمْلُهَا وَالْمُطَالَعَةُ فِيهَا لِلْمُحْدِثِ وَلَوْ كَانَ جُنُبًا، لأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعَانِي الْقُرْآنِ لا تِلاوَتُهُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كُتِبَتْ فِيهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَقَصَدَهَا، خِلافًا لابْنِ عَرَفَةَ الْقَائِلِ بِمَنْعِ مَسِّ تِلْكَ التَّفَاسِيرِ الَّتِي فِيهَا الآيَاتُ الْكَثِيرَةُ مُتَوَالِيَةٌ مَعَ قَصْدِ الآيَاتِ بِالْمَسِّ. (١٥)

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: بِحُرْمَةِ حَمْلِ التَّفْسِيرِ وَمَسِّهِ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ أَكْثَرَ مِنَ التَّفْسِيرِ، وَكَذَلِكَ إِنْ تَسَاوَيَا عَلَى الأَصَحِّ، وَيَحِلُّ مَسُّهُ إِذَا كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ عَلَى الأَصَحِّ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَحْرُمُ لإِخْلالِهِ بِالتَّعْظِيمِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ أَكْثَرَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ أَصَحُّهَا لا يَحْرُمُ، لأَنَّهُ لَيْسَ بِمُصْحَفٍ. (١٦)

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ: بِجَوَازِ مَسِّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ وَنَحْوِهِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الأَصْحَابُ وَحَكَى الْقَاضِي رِوَايَةً بِالْمَنْعِ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مَسِّ كُتُبِ التَّفْسِيرِ بِدَلِيلِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ كِتَابًا فِيهِ آيَةٌ "، وَلأَنَّهَا لا يَقَعُ عَلَيْهَا اسْمُ الْمُصْحَفِ وَلا تَثْبُتُ لَهَا حُرْمَتُهُ. (١٧)

مَسُّ غَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ الْمُصْحَفَ الْمَكْتُوبَ بِحُرُوفٍ أَعْجَمِيَّةٍ وَكُتُبَ تَرْجَمَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ:

الْمُصْحَفُ إِنْ كُتِبَ عَلَى لَفْظِهِ الْعَرَبِيِّ بِحُرُوفِ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ فَهُوَ مُصْحَفٌ وَلَهُ أَحْكَامُ الْمُصْحَفِ، وَبِهَذَا صَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ وَتَنْوِيرِ الأَبْصَارِ: يُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِغَيْرِ الْمُتَطَهِّرِ مَسُّ الْمُصْحَفِ وَلَوْ مَكْتُوبًا بِالْفَارِسِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ عَلَى الصَّحِيحِ.

وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ الْقَلْيُوبِيُّ: تَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لا قِرَاءَتُهُ بِهَا، وَلَهَا حُكْمُ الْمُصْحَفِ فِي الْمَسِّ وَالْحَمْلِ.

أَمَّا تَرْجَمَةُ مَعَانِي الْقُرْآنِ بِاللُّغَاتِ الأَعْجَمِيَّةِ فَلَيْسَتْ قُرْآنًا، بَلْ هِيَ نَوْعٌ مِنَ التَّفْسِيرِ عَلَى مَا صَرَّحَّ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ، وَعَلَيْهِ فَلا بَأسَ أَنْ يَمَسَّهَا الْمُحْدِثُ، عِنْدَ مَنْ لا يَمْنَعُ مَسَّ الْمُحْدِثِ لِكُتُبِ التَّفْسِيرِ. (١٨)

كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ الْمُصْحَفَ:

يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ لَكِنْ تَخْتَلِفُ عِبَارَاتُهُمْ فِي الشُّرُوطِ وَالتَّفْصِيلِ.

فَقَالَ الْحَنَفِيَّةُ: يُكْرَهُ لِلْمُحْدِثِ الْكِتَابَةُ وَمَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا يُفْرَشُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ، وَكَذَا عَلَى الْمَحَارِيبِ وَالْجُدْرَانِ لِمَا يُخَافُ مِنْ سُقُوطِ الْكِتَابَةِ. (١٩)

وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: لا يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ كَتْبُهُ عَلَى الرَّاجِحِ أَيْ لَيْسَ لِلنَّاسِخِ أَنْ يَكْتُبَ وَيَمَسَّ الْمُصْحَفَ مُحْدِثًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُحْدِثِ لِمَشَقَّةِ الْوُضُوءِ كُلَّ سَاعَةٍ. (٢٠)

وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: لا يَجُوزُ كِتَابَةُ الْقُرْآنِ بِشَيْءٍ نَجَسٍ وَإِذَا كَتَبَ الْمُحْدِثُ أَوِ الْجُنُبُ مُصْحَفًا نُظِرَ إِنْ حَمَلَهُ أَوْ مَسَّهُ فِي حَالِ كِتَابَتِهِ حَرُمَ، وَإِلا فَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لأَنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ وَلا مَاسٍّ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ يَحْرُمُ، وَوَجْهٌ ثَالِثٌ يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ دُونَ الْمُحْدِثِ.

وَإِذَا كَتَبَ الْقُرْآنَ فِي لَوْحٍ فَلَهُ حُكْمُ الْمُصْحَفِ فَيَحْرُمُ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ عَلَى الْبَالِغِ الْمُحْدِثِ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الأَكْثَرُونَ، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ لا يَحْرُمُ لأَنَّهُ لا يُرَادُ لِلدَّوَامِ بِخِلافِ الْمُصْحَفِ فَعَلَى هَذَا يُكْرَهُ وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَكْتُوبُ قَلِيلا أَوْ كَثِيرًا فَيَحْرُمُ عَلَى الصَّحِيحِ قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ كَانَ عَلَى اللَّوْحِ آيَةٌ أَوْ بَعْضُ آيَةٍ كُتِبَ لِلدِّرَاسَةِ حَرُمَ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ. (٢١)

وَيُكْرَهُ نَقْشُ الْحِيطَانِ وَالثِّيَابِ بِالْقُرْآنِ وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَإِذَا كَتَبَ قُرْآنًا عَلَى حَلْوَى فَلا بَأسَ بِأَكْلِهِ. وَإِنْ كَانَ عَلَى خَشَبَةٍ كُرِهَ إِحْرَاقُهَا. (٢٢)

وَقَالَ الْحَنَابِلَةُ كَمَا فِي الإِنْصَافِ: يَجُوزُ كِتَابَةُ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ مَسٍّ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ مُقْتَضَى كَلامِ الْخِرَقِيِّ.

وَقَالَهُ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ، وَعَنْهُ يَحْرُمُ وَأَطْلَقَهُمَا فِي الْفُرُوعِ. وَقِيلَ: هُوَ كَالتَّقْلِيبِ بِالْعُودِ. وَقِيلَ لا يَجُوزُ وَإِنْ جَازَ التَّقْلِيبُ بِالْعُودِ. وَلِلْمَجْدِ احْتِمَالٌ بِالْجَوَازِ لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ. (٢٣)


(١) بدائع الصنائع ١/ ١٥٦، والفتاوى الهندية ١/ ٣٨ ـ ٣٩، والهداية مع الفتح ١/ ١٦٨، والمدونة ١/ ١١٢، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ١/ ١٢٥، ومواهب الجليل ١/ ٣٧٤، ونهاية المحتاج ١/ ١٢٣ وما بعدها، وشرح روض الطالب ١/ ٦٠ ـ ٦١، والمغني ١/ ١٤٧، والإنصاف ١/ ٢٢٢، وكشاف القناع ١/ ١٣٤، والفروع ١/ ١٨٨. والمجموع شرح المهذب ١/ ٦٩
(٢) ابن عابدين ١/ ١١٦، ١٩٥، والفتاوى الهندية ١/ ٣٨، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ١/ ١٢٥، وتفسير القرطبي ١٧/ ٢٢٥، والمغني ١/ ١٤٧، القاهرة، دار المنار ١٩٦٧م، وشرح منتهى الإرادات ١/ ١٠٥، ٧٢، القاهرة، مطبعة أنصار السنة.
(٣) تفسير القرطبي ١٧/ ٢٢٦، والدسوقي ١/ ١٢٥، وحاشية ابن عابدين ١/ ١١٦، والفتاوى الهندية ١/ ٣٨، والمغني ١/ ١٤٧، وشرح المنتهى ١/ ٧٢، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي ١/ ٣٥.
(٤) المغني ١/ ١٤٩، وشرح المنتهى ١/ ٧٣، والفتاوى الهندية ١/ ٣٩.
(٥) المغني ١/ ١٤٧، وشرح المنتهى ١/ ٧٢، والفتاوى الهندية ١/ ٣٩، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي ١/ ١٢٥.
(٦) قاله ابن العربي المالكي كما في تفسير القرطبي ١٧/ ٢٢٦، وانظر قاعدة: " حريم الشيء له حكم ما هو حريم له " في الأشباه والنظائر الفقهية للسيوطي ص ١٢٤ القاهرة، مصطفى الحلبي، ١٣٧٨هـ.
(٧) حاشية ابن عابدين ١/ ١٩٥، والفتاوى الهندية ١/ ٣٨، والدسوقي على الشرح الكبير ١/ ١٢٥، والقليوبي على شرح منهاج الطالبين ١/ ٣٥، وشرح منتهى الإرادات ١/ ٧٢.
(٨) حاشية ابن عابدين ١/ ١١٧، ١١٨، والفتاوى الهندية ١/ ٣٨، وتفسير القرطبي ١٧/ ٢٢٧، وشرح المنهاج ١/ ٣٦، والمغني ١/ ١٤٨، وشرح المنتهى ١/ ٧٢.
(٩) حاشية القليوبي ١/ ٣٥ ـ ٣٧، ومغني المحتاج ١/ ٣٧، والدسوقي ١/ ١٢٥، ١٢٦.
(١٠) تفسير القرطبي ١٧/ ٢٢٧، وابن عابدين ١/ ١١٧، والفتاوى الهندية ١/ ٣٩، وشرح المنهاج وحاشية القليوبي ١/ ٣٧، والمغني ١/ ١٤٨.
(١١) مغني المحتاج ١/ ٣٨.
(١٢) الإنصاف ١/ ٢٢٣، وكشاف القناع ١/ ١٣٤.
(١٣) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي ١/ ١٢٦.
(١٤) بدائع الصنائع ١/ ٣٣، والفتاوى الهندية ١/ ٣٩.
(١٥) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ١/ ١٢٥.
(١٦) روضة الطالبين ١/ ٨٠، ونهاية المحتاج ١/ ١٢٥ ـ ١٢٦، والمجموع ٢/ ٦٩، وشرح روض الطالب ١/ ٦١.
(١٧) كشاف القناع ١/ ١٣٥، والإنصاف ١/ ٢٢٥، والمغني ١/ ١٤٨، والفروع ١/ ١٩٠.
(١٨) تفسير القرطبي ٢/ ٣٦٨، والدسوقي على الشرح الكبير ١/ ١٢٥، وحاشية ابن عابدين ١/ ١٨، والفتاوى الهندية ١/ ٣٩، والقليوبي ١/ ٣٦.
(١٩) تبيين الحقائق ١/ ٥٨، وبدائع الصنائع ١/ ١٥٦، ورد المحتار على الدر المختار ١/ ١٩٥.
(٢٠) حاشية الدسوقي ١/ ١٢٥، ومواهب الجليل ١/ ٣٠٥.
(٢١) المجموع ٢/ ٧٢، وشرح روض الطالب ١/ ٦١ ـ ٦٢.
(٢٢) المجموع ٢/ ٧٢، وشرح روض الطالب ١/ ٦١ ـ ٦٢.
(٢٣) الإنصاف ١/ ٢٢٥ ـ ٢٢٦، والفروع ١/ ١٩١، وكشاف القناع ١/ ١٣٥ ـ ١٣٧.