للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التكرار، فظهر بذلك أن التنوين على رأي البصريين ممتنع، ولعل السر في العدول عن تنوينه، إرادة التنصيص على الاستغراق ومع التنوين يكون الاستغراق ظاهرًا لا نصًا، فإن قيل إذا نون الاسم كان مطولًا ولا عاملة، وقد تقرر أنها عند العمل ناصة على الاستغراق. أجيب بأن بعضهم خص الاستغراق بحالة البناء من جهة تضمن معنى (من) الاستغراقية، ولو سلم ما قيل لم يتعين عملها في هذا الاسم المنصوب حتى يكون النصب على الاستغراق حاصلًا لاحتمال أن يكون بفعل محذوف، أي: لا نجد ولا نرى مانعًا ولا معطيًا فعدل إلى البناء لسلامته من هذا الاحتمال.

وقوله: "ولا ينفع ذا الجَدَّ منك الجَدُّ" أي: بفتح الجيم فيهما الغنى أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه إنما ينفعه العمل الصالح وعلى هذا تكون (من) في قوله منك بمعنى عند. وقيل بمعنى بدل كما في قوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ} أي: بدل الآخرة وكقول الشاعر:

فليتَ لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شربةً ... مبردةً باتتْ على الطَّهَيانِ

والطهيان بحركات خشبة يبرَّد عليها الماء. وقال ابن التين ليست بمعنى عند ولا بدل بل هي كقولك: (ولا ينفعُكَ مني شيءٌ إنْ أنا أردتُكَ بسوءٍ) ومقتضى قوله: أنها بمعنى عند أو فيه حذف تقديره (من قضائي أو سطوتي أو عذابي) واختار في المغني الأول. قال ابن دقيق العيد: قوله "منك" تجب أن يتعلق بينفع وينبغي أن يضمن ينفع معنى يمنع وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق "منك" بالجد كما يقال (حظي منك كثير)؛ لأن ذلك نافع (والجد) مضبوط بالفتح في جميع الروايات. ومعناه الغنى والحظ، وحكى الراغب أن المراد به هنا أبو الأب أي: لا ينفع أحداً نسبه. ورواه أبو عمرو الشيباني بالكسر ومعناه: لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهاده وأنكره الطبري. ووجه القزاز إنكاره بأن الاجتهاد في العمل نافع؛ لأن الله تعالى دعا الخلق إلى ذلك فكيف لا ينفع عنده؟ قال فيحتمل أن يكون المراد أنه لا ينفع الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع الآخرة. قلت: هذا الاحتمال بعيد جدًا؛ لأنه أوضح من أن ينفى. وقال غيره: لعل المراد أنه لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته كما يأتي في "الرقاق" في باب: (القصد والمداومة على العمل) عند حديث: "لا يُدخلُ أحدًا منكم الجنَةَ عملُهُ". وقيل المراد على رواية الكسر السعي التام في الحرص أو الإِسراع في الهرب. قال النووي: المشهور الذي عليه الجمهور أنه بالفتح وهو الحظ في الدنيا بالمال أو الولد أو العظمة أو السلطان، والمعنى لا ينجيه حظه منك وإنما ينجيه فضلك ورحمتك، وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقيب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد ونسبة الأفعال إلى الله والمنع والإِعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السُّنن وإشاعتها. وروى ابن خزيمة عن أبي بكرة: "أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- كان يقولُ في دُبُرِ الصلوات: "اللَّهُمَّ إنِّي أعوذ بكَ مِنَ الكفرِ والفقرِ وعذاب القبرِ". وروى أيضًا عن عقبة بن عامر قال: "قال لي رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرأْ المعوذاتِ في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ". وعند النَّسائيّ: "اقرأ بالمعوذتين". وعند ابن السني عن أبي أمامة: "مَنْ قرأ آية الكرسي، وقُلْ هو اللهُ أحدٌ دُبُرَ كلِّ صلاةٍ مكتوبةٍ لم يمنعه من دخولِ الجنَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>