للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التي قسم عليها الليل والنهار، بل المراد ترتيب درجات السابقين على مَنْ يليهم في الفضيلة؛ لئلا يستوي فيه رجلان جاءا في طرفي ساعة؛ ولأنه لو أُريد ذلك لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف. وفي "شرح المهذب" و"مسلم" المراد الفلكية لكن بَدَنة الأول أكمل من بَدَنَة الأخير، وبَدَنَة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة وإن اشتركوا في البَدَنَة مثلًا كما في درجات صلاة الجماعة الكثيرة والقليلة، وحينئذٍ فمراده بساعات الفلكية اثنتا عشرة زمانية صيفًا أو شتاء، وقد روى أبو داود والنسائي وصححه الحاكم عن جابر مرفوعًا "يومُ الجمعةِ اثنتا عشرةَ ساعةً"، وهذا وإن لم يرد في حديث التبكير فيستأنس به في المراد بالساعات. وقال الماوردي: إن الرواح من طلوع الشمس موافقة لأهل الميقات ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب، واستشكل بأن الساعات ست لا خمس، والجمعة لا تصح في السادسة، بل في السابعة.

وأجيب بأن عند النَّسائيّ بإسناد صحيح بعد الكبش بطة، ثم دجاجة، ثم بيضة. وفي أخرى دجاجة، ثم عصفورًا، ثم بيضة، ومعلوم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يخرج إلى الجمعة متصلًا بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة فيكون خروج الإمام عند انتهاء السادسة، وفي حديث وائلة عند الطبراني في الكبير مرفوعًا أن الله تعالى يبعث الملائكةَ يومَ الجمعةِ على أبواب المسجدِ يكتبونَ القومَ الأولَ والثاني والثالثَ والرابعَ والخامسَ والسادسَ، فإذا بلغوا السابعَ كانواَ بمنزلةِ من قرَّبَ العصافير". وللروياني والبغوي وجه ثالث أن التبكير من الزوال كقول مالك. وحكى الصيدلاني وجهًا رابعًا وهو أنه من ارتفاع النهار وهو وقت الهجير. وانفصل المالكية إلا قليلًا منهم وبعض الشافعية عن الإِشكال بأن المراد بالساعات الخمس لحظات لطيفة أولها زوال الشمس وآخرها قعود الخطيب على المنبر، واستدلوا على ذلك بأن الساعة تطلق على جزء من الزمان غير محدود تقول: جئت ساعة كذا. وقالوا: إن حملها على الزمانية التي يقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه؛ ولأنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "إِذا كانَ يومُ الجمعةِ قامَ على كلِّ بابٍ من أبوابِ المسجدِ ملائكةٌ يكتبونَ الأولَ فالأولَ فالمتهجر إلى الجمعةِ كالمُهدي بَدَنَةً" الحديث فإن قيل: قد تستعمل الهاجرة في غير موضعها فيجب العمل عليه جمعًا، فالجواب: أنه ليس إخراجها عن ظاهرها بأولى من إخراج الساعة الأولى عن ظاهرها، فإذا تساويا على ما زعمت فما أرجح؟

قلت: عمل الناس جيلًا بعد جيل لم يعرف أن أحدًا من الصحابة -رضي الله تعالى عنهم- كان يأتي المسجد عند طلوع الشمس لصلاة الجمعة، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة، واستدلوا أيضًا بأن قوله في الحديث "ثم راح" يدل على أنه أول الذهاب إلى الجمعة من الزوال؛ لأن حقيقة الرواح من الزوال إلى آخر النهار، والغدو من أوله إلى الزوال. قال المازري: تمسك مالك بحقيقة الرواح، وتجوّز في الساعة وعكس غيره. وأنكر الأزهري على مَنْ زعم أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال، ونقل أن العرب تقول راح في جميع الأوقات بمعنى ذهب.

<<  <  ج: ص:  >  >>