للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال: وهي لغة أهل الحجاز، ونقل أبو عبيد في "الغريبين" نحوه. وفيه رد على الزين بن المنير حيث أطلق أن الرواح لا يستعمل في المضي في أول النهار بوجه، وحيث قال: إن استعمال الرواح بمعنى الغدو لم يسمع ولا ثبت ما يدل عليه. وقد قال في "الفتح": إن التعبير بالرواح ليس في شيء من طرق هذا الحديث إلا في رواية مالك هذه عن سمي وقد رواه ابن جريج عن سمي بلفظ: "غدا"، ورواه أبو سلمة عن أبي هريرة بلفظ: "المتعجلُ إلى الجُمعةِ كالمُهدي بَدَنَةً" الحديث، وصححه ابن خزيمة.

وفي حديث سمرة: "ضربَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مثلَ الجُمعةِ في التبكيرِ كناحر البَدَنَة" الحديث، أخرجه ابن ماجه. ولأبي داود عن علي مرفوعًا: "إذا كان يومُ الجُمعةِ غدتِ الشَياطينَ براياتِها إلى الأسواقِ وتغدو الملائكةُ فتجلسُ على بابِ المسجدِ فتكتَب الرجلَ مِنْ ساعةٍ والرجلَ مِنْ ساعتينِ" الحديث. قال: فدل مجموع هذه الأحاديث على أن المراد بالرواح الذهاب، ولعل النكتة في التعبير بالرواح الِإشارة إلى أن الفعل المقصود إنما يكون بعد الزوال، فيسمى الذاهب إلى الجُمعة رائحاً وإن لم يجىء وقت الرواح كما سمي المقاصد إلى مكة حاجًا.

قلت: هذه الأحاديث المذكورة ليس فيها ذكر للرواح، وإنما فيها الغدو أو التبكير، فكيف يصح قوله إن المراد بالرواح فيها الذهاب؟ واحتج بعض المالكية أيضًا بقوله في رواية الزهري: مثل المهجر؛ لأنه مشتق من التهجير وهو السير وقت الهاجرة. وأجيب بأن المراد بالتهجير هنا التبكير كما تقدم نقله عن الخليل في "المواقيت".

قلت: الذي مرّ عن الخليل في باب (الاستهام في الأذان) هو محل التهجير على ظاهره من أنه الإتيان إلى الصلاة وقت الهاجرة وهي شدة الحر نصف النهار، والذي فسر التهجير بالتبكير هو الهروي. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون مشتقًا من الهِجيّر بالكسر وتشديد الجيم وهو ملازمة ذكر الشيء. وقيل: هو من هجير المنزل وهو ضعيف؛ لأن مصدره الهجر لا التهجير. وقال القرطبي: الحق أن التهجير هنا من الهاجرة وهو السير في وقت الحر وهو صالح لما قبل الزوال وبعده، فلا حجة فيه لمالك. وقال التوربشتي: جعل الوقت الذي يرتفع فيه النهار ويأخذ الحر في الازدياد من الهاجرة تغليبًا بخلاف ما بعد الزوال، فإن الحرّ يأخذ في الانحطاط. ومما يدل على استعمالهم التهجير في أول النهار ما أنشده ابن الأعرابي: يهجرون تهجير النجر. واحتجوا أيضًا بأن الساعة لو لم تطل للزم تساوي الآيتين فيها، والأدلة تقتضي رجحان السابق بخلاف ما إذا قلنا إنها لحظة لطيفة، وأجابوا عن هذا بما مرّ مما قاله النووي من أن التساوي وقع في مسمى البَدَنَة والتفاوت في صفاتها، ويؤيده أن في رواية ابن عجلان تكرير كل من المتقرب به مرتين حيث قال: "كرجل قرّب بَدَنَة، وكرجل قرّب بَدَنَة" الحديث. ولا يرد على هذا أن في رواية ابن جريج "وأول الساعة وآخرها سواء"؛ لأن هذه التسوية بالنسبة إلى البَدَنة كما تقرر واحتج من كره التبكير أيضًا بأنه يستلزم تخطي الرقاب في الرجوع لمن عرضت له حاجة فخرج ثم رجع وتعقب بأنه لا حرج عليه في هذه الحالة؛

<<  <  ج: ص:  >  >>