للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال ابن رشيد: لما كان أحد الأربع هو قوله: "لا تشد الرحال" ذكر صدر الحديث إلى الموضع الذي يتلاقى فيه افتتاح أبي هُريرة لحديث أبي سعيد، فاقتطف الحديث، وكأنه قصد بذلك الإغماص لينبه غير الحافظ على فائدة الحفظ، على أنه ما أخلاه عن الإيضاح عن قرب، فإنه ساق بتمامه سادس ترجمة. وقوله: "وحدثنا عَلِيّ" عند البيهقي من وجه آخر "عن عليّ بن المَدِيْنىّ قال: حدّثنا به سفيان مُرة بهذا اللفظ"، وكان أكثر ما يحدث به "تشد الرحال" وقوله: لا تُشد الرحال، بضم أوله: بلفظ النفي، والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال الطِّيبيّ: هو أبلغ من صريح النهي، كأنه قال: لا يستقيم أن يقصد بالرحيل إلاّ هذه البقاع، لاختصاصها بما اختصت به، والرحال، بالمهملة جمع رحل، وهو للبعير كالسرج للفرس، وكنى بشد الرحال عن السفر؛ لأنه لازمه، وخرج ذكرها مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل والبغال والحمير، والمشي في المعنى المذكور.

وقوله: "إلا إلى ثلاثة مساجد" المستشنى منه محذوف، فإما أن يقدر عامًّا، فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة، أو أخص من ذلك لا سبيل إلى الأول، ولإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة المجمع على طلبه، وصلة الرحم المطلوبة شرعًا، وطلب العلم الذي هو سنة أو واجب، ولعرفة لقضاء النّسُك الواجب اجماعًا، وللجهاد والهجرة من دار الكفر إلى دار الإِسلام، وغير ذلك من الحوائج المتعلقة بالدنيا أو الآخرة، فتعين الثاني، والأوْلى أنه يعد ما هو أكثر مناسبة، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلاَّ إلى الثلاثة، فيبطل بذلك قول: "منع الرحال" إلى زيارة القبر الشريف، وغيره من قبور الصالحين.

وقد حمله ابن تيمية على الوجه الأول من كون المقدر عامًّا، قاصدًا بذلك الاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى زيارة قبر سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال في "الفتح": وهي من أبشع المسائل المنقولة عن ابن تيمية، وأَعمته محبة مذهَبه من بغض ما فيه تعظيم للنبي، -صلى الله عليه وسلم-، وتكفير المسلمين به عمّا يلزم على تفسيره من منع ما أباحته الشريعة، أو أوجبته مما مرّ، وعمن يأتي من الفساد في تقديره.

وقد حكت العلماء الإجماع على مطلوبيَّة شد الرحال إليه، عليه الصلاة والسلام، وقد قال تقي الدين السّبْكِيّ في الرد عليه: ليس في الأرض بقعة لها فضل لذاتها حتى تُشد الرحال إليها غير البلاد الثلاثة، ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره، ورتب عليه حكمًا شرعيًا، وأما غيرها من البلاد فلا تشد إليها لذاتها، بل لزيارةٍ أو جهادٍ أو علمٍ أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات. قال: وقد التبس ذلك على بعضهم، فزَعم أن شد الرحال إلى الزيارة، لمن في غير الثلاثة، داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه، فمعنى الحديث لا تُشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان،

<<  <  ج: ص:  >  >>