للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحذفَ دلالةُ المتقدم. قلت: هكذا قال صاحب "الفتح" والعينى والقسطلانيّ. والظاهر أن الصواب أن يقال: فحذف المضاف إليه وأبقى المضاف على حاله، ويحتمل أن الإضافة غير مقصودة، وترك تنوينه لمشابهته "جواري" لفظًا، وهو ظاهر معنى لدلالته على جمع. وفي رواية عمرو بن مرزوق الجزمُ بسبع غزوات من غير شك.

وقوله: "وشهدت تسيره" أي: تسهيله على الناس، كذا في جميع الطرق من التسير، وحكى ابن التين عن الداوديّ أنه عنده "وشهدتُ تُسْتَر" بضم المثناة الفوقية وسكون المهملة وفتح المثناة. وقال: معنى شهدت تُسْتَر، أي: شهدتُ فتحها. وكان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه سنة سبع عشرة من الهجرة. قال في الفتح: لم أر ذلك في شيء من الأصول، ومقتضاه أن لا يبقى في القصة شائبة رفع، بخلاف الرواية المحفوظة، فإن فيها إشارة إلى أن ذلك كان من شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- تجويز مثله، وأشار بقوله: "وشهدت تسيره" إلى الرد على من شدد عليه في أن يترك دابته تذهب ولا يقطع صلاته.

وفيه حجة للفقهاء في قولهم: إن كل شيء يخشى إتلافه من متاع أو غيره، يجوز قطع الصلاة لأجله. وقوله: "وإني إن كنت أن أرجع مع دابتي أحب الي من أن أدعها ترجع إلى مألفها. والظاهر في إعراب هذه الكلمات أن يقال إن الياء في إني اسم إن، وكلمة إن في لفظ "إن كنت" شرطية، واسم كان هو الضمير المرفوع فيه، وكلمة أن بالفتح مصدرية، يقدر لام العلة قبلها، أي وإن كنت لأن أرجع. وقوله: أحب، خبر كان، وهذه الجملة الشرطية سدت مسد خبر إن في "إني" والمعنى أن رجوعه إلى دابته وانطلاقه معها، وهو في الصلاة، أحب إليه من أن يتركها، ترجع إلى مألَفها، بفتح اللام، أي معلفها، فيشق عليه، وكان منزله بعيدًا، إذا صلاها وتركها لم يكن يأتي إلى أهله إلا الليل لبعد المسافة، وقد صرح بذلك في رواية حماد، فقال: إن منزلي متراخٍ، أي: متباعد، فلو صليت وتركتها لم آتِ أهلي إلى الليل، لبعد المكان.

وقد مرَّ أن في بعض طرقه أن الصلاة المذكورة كانت العصر. وقوله: "إلى مأْلَفِها" بناه على غالب أمرها، ومن الجائز أن لا ترجع إلى مألفها، بل تتوجه إلى حيث لا يدري بمكانها، فيكون فيه التضييع للمال المنهي عنه. وظاهر سياق القصة أن أبا برزة لم يقطع صلاته، ويؤيده ما في رواية عمرو بن مرزوق: فأخذها ثم رجع القهقرى، فإنه لو كان قطعها، ما بالي أن يرجع مستدبر القبلة. وفي رجوعه القهقرى ما يشعر بأن مشيه إلى قصدها ما كان كثيرًا، وهو مطابق لثاني حديثي الباب، لأنه يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- تأخر في صلاته، وتقدم، ولم يقطعها، فهو عمل يسير، ومشي قليل، وليس فيه استدبار القبلة، فلا يضر.

وفي مصنف ابن أبي شيبة: سُئل الحسن عن رجل صلّى فأشفق أن تذهب دابته، قال: ينصرف، قيل له: أفَيُتِمّ؟ قال: إذا ولَّى ظهره القبلةَ استأنفَ. وقد أجمع الفقهاء على أن المشي الكثير في الصلاة المفروضة يبطلها، فيحمل حديث أبي بَرْزة على القليل، كما قررناه. وتقدم في

<<  <  ج: ص:  >  >>