للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المشركين، فاستمر صفحه وعفوه عمن يُظهر الإِسلام، ولو كان باطنه على خلاف ذلك، لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح، ودخل المشركون في الإِسلام، وقل أهل الكفر وذلوا، أمر بمجاهرة المنافقين، وحملهم على حكم مُرِّ الحق، لاسيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين، وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإِشكال عما وقع في هذه القصة.

قال الخطابيّ: إنما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع عبد الله بن إِبَيّ ما فعل، لكمال شفقته على من تعلق بشيء من الدين، ولتطبيب قلب ولده عبد الله، الرجلِ الصالحِ، ولتَأَلُّف قومه من الخزرج لرياسته فيهم، فلو لم يجب سؤل ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح، لكان سُبَّة على ابنه، وعارًا على قومه، فاستعمل أحسن الأمرين في السياسة، إلى أن نُهي فانتهى.

وتبعه ابن بطال، وزاد "ورجا أن يكون معتقدًا لبعض ما كان يظهره من الإِسلام" وتعقبه ابن المنير بأن الإِيمان لا يتبعض، وهو كما قال، لكن مراد ابن بطال أن إيمانه كان ضعيفًا، وقد مال بعض أهل الحديث إلى تصحيح إسلام عبد الله بن أُبَيّ، لكون النبي -صلى الله عليه وسلم-، صلى عليه، وذهل هذا القائل عن الوارد في حقه من الآيات والأحاديث الصريحة، بما ينافي ذلك، ولم يقف على جواب شافٍ في ذلك، فأقدم على الدعوى المذكورة، وهو محجوج بإجماع من قبله على نقيض ما قال، وإطباقهم على ترك ذكره في كتب الصحابة مع شهرته. وذكر من هو دونه في الشرف والشهرة بأضعاف مضاعفة، وقد أخرج الطبريّ عن قتادة في هذه القصة قال: فأنزل الله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} قال: فذكر لنا أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "وما يُغني قميصي من الله، وإني لأرجو أن يسلم بذلك ألف من قومه" واستشكل الداوديّ، ما مرَّ في رواية ابن عباس، من تبسمه عليه الصلاة والسلام قائلًا: إن ضحكه -صلى الله عليه وسلم- كان تبسمًا، ولم يكن عند شهود الجنائز يستعمل ذلك، وجوابه أنه عبر عن طلاقة وجهه بذلك، تأنيسًا لعمر وتطييبًا لقلبه، كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته، واستشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه، واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه. وذلك ينادى على منكري صحته بعدم معرفة الحديث، وقلة الاطلاع على طرقه.

قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث، وقال: لا يجوز أن يقبل هذا, ولا يصح أن الرسول قاله، وقال: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها. وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرج في الصحيح. وقال في البرهان: لا يصححه أهل الحديث، وقال الغزاليّ في المستصفى: الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح، وقال الداوديّ: هذا الحديث غير محفوظ، والسبب في إنكارهم صحته ما تقرر عندهم مما مرَّ، وهو

<<  <  ج: ص:  >  >>