للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأجيب عنه بما حاصله أن المنهيّ عنه استغفار ترجى إجابته، حتى يكون مقصوده تحصيل المغفرة لهم، كما في قصة أبي طالب، بخلاف الاستغفار لمثل عبد الله بن أُبَيّ، فإنه استغفار لقصد تطبيب قلوب من بقي منهم، وهذا الجواب ليس بمرضيّ، ونحوه قول الزمخشريّ، فإنه قال: فإن قلت كيف خفي على أفصح الخلق وأخيرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بهذا العدد، أن الاستغفار ولو كثر لا يجدي، ولاسيما وقد تلاه قوله تعالى: {.. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ..} الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم. قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه فعل ما فعل، وقال ما قال، إظهارًا لغاية رحمته ورأفته على من بُعث إليه، وهو كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وفي إظهار النبي -صلى الله عليه وسلم- الرأفة المذكورة لطفٌ بأمته، وباعثٌ على رحمة بعضهم بعضًا.

وتعقبه ابن المنير وغيره، وقالوا: لا يجوز نسبة ما قاله إلى رسول الله, لأن الله أخبر أنه لا يغفر للكفار، وإذا كان لا يغفر لهم، فطلب المغفرة لهم مستحيل، وطلب المستحيل لا يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم-. ومنهم من قال: إنّ النهيَ عن الاستغفار لمن مات مشركًا، لا يستلزم النهي عن الاستغفار لمن مات مظهرًا للإِسلام، لاحتمال أن يكون معتقده صحيحًا، وهذا جواب جيد. والراجح أن نزول قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} متراخيًا عن قصة أبي طالب جدًا، وأن الذي نزل في قصته {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}، ويأتي تحرير ذلك إن شاء الله تعالى في آخر الجنائز.

وفي بقية هذه الآية من التصريح بأنهم كفروا بالله ورسوله، ما يدل على أن نزول ذلك وقع متراخيًا عن القصة، ولعل الذي نزل أولًا، وتمسك النبي -صلى الله عليه وسلم- به، قولُه تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} إلى قوله {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ولذلك اقتصر في جواب عمر على التخيير، وعلى ذكر السبعين، فلما وقعت القصة المذكورة كشف الله عنهم الغطاء، وفضحهم على رؤوس الملأ، ونادى عليهم بأنهم كفروا بالله ورسوله. ولعل هذا هو السر في اقتصار البخاريّ فيما يأتي عنه في التفسير في الترجمة من هذه الآية على هذا القدر، إلى قوله: {فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}. ولم يقع في شيء من نسخ كتابه تكميل الآية، كما جرت به العادة، من اختلاف الرواة عنه في ذلك.

وإذا تأمل المصنف وجد الحاصل لمن رد الحديث أو تعسف في التأويل ظنه بأن قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} مع قوله {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} أي: نزلت الآية كاملة, لأنه لو فرض نزولها كاملة، لاقترن بالنهي العلةُ، وهي صريحة في أن قليل الاستغفار وكثيره لا يجدي، وإلاّ، فإذا فرض ما حررته من أن هذا القدر نزل متراخيًا عن صدر الآية، ارتفع الإِشكال، وإذا كان الأمر كذلك فحجة المتمسك من القصة بمفهوم العدو صحيحٌ، وكون ذلك وقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- متمسكًا بالظاهر، على ما هو المشروع في الأحكام إلى أن يقوم الدليل الصارف عن ذلك، لا إشكال فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>