للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب لم يحصل في يده إلاَّ التراب"، لكن يُبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي "لم تفعل ما أمرك" وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته، قال عياض: هو بمعنى التعجيز، أي: أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإنْ أمكنك فافعل.

وقال القرطبيّ: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي، لكونه لم يصرح لهن بكون النبي -صلى الله عليه وسلم- نهاهن، فحملن ذلك على أنه مُرشد للمصلحة من قِبَل نفسه، أو علمن ذلك، لكن غلب عليهن شدةُ الحزن، لحرارة المصيبة. ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إنْ لم يسكتن. ويحتمل أن يكون بكاءًا مجردًا، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن, لأنه لم يقر على باطل. ويبعد تمادي الصاحبيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم.

وفائدة نهيهنّ على الأمر المباح خشية أَنْ يسترسلن فيه، فيفضي بهنّ إلى الأمر المحرم، لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم. وقوله: فقلت، هو مقول عائشة، وقوله: أَرْغم الله أنفك، بالراء والمعجمة، أي ألصقهُ بالرّغام، بتثليث الراء، وهو التراب، والرُّعام، بضم الراء وإهمال العين المخاطُ. قال أحد أصدقائنا:

أعجم وثلث في التراب للرّغام ... أهمل وضم في المخاط للرّعام

ذكره العلامة الحفنيّ ... وهو إمامٌ عالمٌ مَرْضِي

وإنما قالت له ذلك إهانة وإذلالًا، ودعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة، لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بكثرة تردده إليه في ذلك.

وقوله: لم تفعل، قال الكرمانيّ: أي: لم تبلغ النهي ونفته، وإن كان قد نهى ولم يطعنه لأن نهيه لم يترتب عليه الامتثال، فكأنه لم يفعل، ويحتمل أن تكون أرادت أنه لم يفعل، أي: الحثو بالتراب. قال في الفتح: لفظة "لم" يعبر بها عن الماضي، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت أنه لم يفعل؟ فالظاهر أنها قامت عندها قرينة بأنه لا يفعل، فعبرت عنه بلفظ الماضي، مبالغة في نفي ذلك عنه، وهو مشعر بن الرجل المذكور كان من أزلام النسوة المذكورات.

وفي الرواية الآتية بعد أبواب "فوالله ما أنت بفاعل ذلك" وكذا المسلم وغيره، فظهر أنه من تصرف الرواة. وقوله: من العَناء، بفتح المهملة والنون والمد، أي المشقة والتعب. وفي رواية لمسلم "من الفِيّ"، بكسر المهملة وتشديد التحتانية، وفي رواية العُذريّ "الفَيّ" بفتح المعجمة، بلفظ ضد الرشد.

<<  <  ج: ص:  >  >>