للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله: ثم أتبعها بأخرى، في رواية الإِسماعيليّ: ثم أتبعها، والله، بأخرى، بزيادة القسم. قيل: أراد به أنه اتبع الأُولى بدمعة أُخرى، وقيل: أتبع الكلمة الأولى، المجملة، وهي قوله: إنها رحمة، بكلمة أخرى مفصلة. وهي قوله: "إن العين تدمع" ويؤيد الثاني ما مرَّ عن طريق عبد الرحمن، ومرسل مكحول. وقوله إن العين تدمع إلى آخره في حديث عبد الرحمن بن عوف ومحمود بن لبيد "ولا نقول ما يُسخط الرب" وزاد في آخر حديث عبد الرحمن "لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل ناتيه، وأنّ آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزنًا هو أشد من هذا" ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد ومرسل مكحول، وزاد في آخره "وفصل رضاعه في الجنة"، وزاد في آخر حديث محمود بن لبيد "وقال: إن له مُرْضعًا في الجنة".

ومات وهو ابن ثمانية عشر شهرًا، وعند مسلم من حديث أنس قال عمرو بن سعيد: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي، وإن له لظئرين يكملان رضاعه في الجنة" سيأتي في آخر الجنائز حديث البراء "إن لإبراهيم لمرضعًا في الجنة" وفي قوله: "إن العين تدمع" الخ إضافة الفعل إلى الجارحة تنبيهًا على أن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة العبد، ولا يكلف الانفكاك عنه، وكأنّ الجارحة امتنعت، فصارت هي الفاعلة، لا هو، ولهذا قال: "وإنا بفارقك لمحزونون" فعبر بصيغة المفعول لا بصيغة الفاعل، أي ليس الحزن من فعلنا، ولكنه واقع بنا من غيرنا, ولا يكلف الإِنسان بفعل غيره. والفرق بين ومع العين ونطق اللسان، أنّ النطق يُمْلَك، بخلاف الدمع، فهو للعين كالنظر، ألا ترى أن العين إذا كانت مفتوحة نظرت شاء صاحبها أو أبى، فالفعل لها, ولا كذلك نُطْق اللسان، فإنه لصاحب اللسان. قاله ابن المنير.

وقد مرَّ كثير من مناقب إبراهيم عليه السلام عند تعريفه في الرابع من الكسوف، قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح، والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين، ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى، وفيه جواز الإخبار عن الحزن، وإن كان كتمه أولى، وجواز البكاء على الميت قبل موته، نعم، يجوز بعده, لأنه -صلى الله عليه وسلم- بكى على قبر بنت له. رواه البخاريّ وزار قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، رواه مسلم. ولكنه قبل الموت أولى بالجواز، لأنه بعد الموت يكون أسفًا على ما فات، وبعد الموت خلاف الأولى، كذا نقله في المجموع عن الجمهور.

ولكنه نقل في الأذكار عن الشافعيّ والأصحاب أنه مكروهٌ، لحديث "فإذا وجبت فلا تبكيَنَّ باكية" قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "الموت" رواه الشافعيّ وغيره بأسانيد صحيحة. قال السّبكيّ: ينبغي أن يقال: إن كان البكاء لرقة على الميت وما يخشى عليه من عذاب الله وأهوال يوم القيامة فلا يكره، ولا يكون خلاف الأولى، وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء، فيكره أو يحرم، وهذا كله في البكاء بصوت. أما مجرد دمع العين العاري عن القول والفعل الممنوعين، فلا منع منه

<<  <  ج: ص:  >  >>