للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الطيبيّ: ذكر هذه الآية عقب هذا الحديث يقويّ ما أوّله حماد بن سلمة من أوجه.

أحدها أن التعريف في قوله "على الفطرة" إشارة إلى معهود، وهو قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ} ومعنى المأمور في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} أي أثبت على العهد القديم.

ثانيها ورود الرواية بلفظ "الملة" بدل "الفطرة والدين" في قوله {لِلدِّينِ حَنِيفًا} هو عين الملة. قال الله تعالى: {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ويؤيده حديث عِياض المتقدم.

ثالثها التشبيه بالمحسوس المُعَاين، ليدل على أن ظهوره يقع في البيان مبلغ هذا المحسوس، والمراد تمكن الناس من الهدى، في أصل الجِبلَّة، والتهيؤ لقبول الدِّين، فلو ترك المرء عليها، لاستمر على لزومها, ولم يفارقها إلى غيرها, لأن حسن هذا الدين ثابتٌ في النفوس، وإنما يعدل عنه لآفة من الآفات البشرية كالتقليد.

وإلى هذا مال القرطبيّ في المفهم، فقال: المعنى أن الله خلق قلوب بني آدم مؤهلة لقبول الحق، كما خلق أعينهم وأسماعهم قابلة للمرئيات والمسموعات، فما دامت باقية على ذلك القبول، وعلى تلك الأهلية أدركت الحق، ودين الإِسلام وهو الدين الحق.

وقد دل على هذا المعنى بقية الحديث، حيث قال: كما تَنْتُج البهيمةُ، يعني أن البهيمة تنتج الولد سالمًا، كامل الخلقة، فلو ترك كذلك كان بريئًا من العيب، لكنهم تصرفوا فيه بقطع أذنه مثلًا، فخرج عن الأصل، وهو تشبيه واقع، ووجهه واضح.

وقال ابن القَيِّم: ليس المراد بقوله "يولد على الفطرة" أنه خرج من بطن أمه يعلم الدين, لأن الله يقول {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} ولكن المراد أن فطرته مقتضية لمعرفة دين الإِسلام، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار والمحبة، وليس المراد مجرد قبول الفطرة لذلك, لأنه لا يتغير بتهويد الأبوين مثلًا، بحيث يخرجان الفطرة عن القبول، وإنما المراد أن كل مولود يولد على إقراره بالربوبية، فلو خُلِّي وعُدِم المعارض لم يعدل عن ذلك إلى غيره، كما أنه يولد على محبة ما يلائم بدنه، من ارتضاع اللبن حتى يصرفه عنه الصارف، ومن ثم شبهت الفطرة باللبن، بل كانت إياه في تأويل الرؤيا. وفي المسألة أقوال أُخر، منها قول ابن المبارك: إن المراد أنه يولد على ما يصير إليه من شقاوة أو سعادة، فمن علم الله أنه يصير مسلمًا ولد على الإِسلام، ومن علم أنه يصير كافرًا ولد على الكفر، فكأنَّه أوَّل الفطرة بالعلم.

وتعقب بأنه لو كان كذلك، لم يكف، لقوله "فأبواه يهوِّدانه .. " الخ معنى لأنهما فعلا به ما هو الفطرة التي ولد عليها فينافي التمثيل بحال البهيمة، ومنها أن المراد أن الله خلق فيهم المعرفة

<<  <  ج: ص:  >  >>