للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

استطاعوا ما دامت الدنيا وهي دار تكليف باقية، وقد ثبت في صحيح مسلم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- رأى موسى قائمًا في قبره يصلي، قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم، لا بما يلزمون به، كما يُلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده أن عمل الآخر ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} الآية، لكن تمام هذا التوجيه أن يقال: إن المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا، كما مثلت له ليلة الإِسراء، وأما أجسادهم فهي في قبورهم، قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالًا فيروى في اليقظة كما يرى في النوم.

ثانيها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أري حالهم التي كانوا عليها في حياتهم، فمثلوا له كيف كانوا، وكيف كان حجهم وتلبيتهم، ولهذا قال في رواية ابن عباس عند مسلم: كأني انظر إلى موسى، كأني انظر إلى يونس.

ثالثها: أنه أخبر عما أوحي إليه -صلى الله عليه وسلم- من أمرهم، وما كان منهم، ولشدة القطع به، قال: كأني انظر إليه، ولأجل هذا أدخل حرف التشبيه في الرواية، وحيث أطلقها فهي محمولة على ذلك.

رابعها: كأنها رؤية منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي، واعتمد هذا بعضهم قائلًا: كون هذا في المنام لا يبعد، وقال ابن المنير: توهيم المهلب للراوي وهم منه، وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني انظر إليه، ولهذا استدل بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلنَّ ابن مريم"، قلت: إذا كانت صلاتهم في أوقات مختلفة، وفي أماكن مختلفة لا يردها العقل، وقد ثبت بها النقل دل ذلك على حياتهم، وإذا ثبت أنهم أحياء من حيث النقل، فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء، وقد جمع البيهقي كتابًا لطيفًا في حياة الأنبياء في قبورهم أورد فيه حديث أنس: الأنبياء أحياء في قبورهم، يصلُّون، أخرجه عن المستلم بن سعيد، وثَّقه أحمد وابن حبان عن الحجاج الأسود، وقد وثقه أحمد، وابن معين، وأخرجه أبو يعلى في مسنده من هذا الوجه، وأخرجه البزار عن الحجاج الأسود، وصححه البيهقي، وأخرجه البيهقي أيضًا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، أحد فقهاء الكوفة بلفظ آخر، قال: إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور، ومحمد سيىء الحفظ.

<<  <  ج: ص:  >  >>