للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"فإن أدركه أحد فليأت النهر الذي يراه نارًا، وليغمض، ثم ليطاطىء رأسه فيشرب"، وفي رواية شعيب بن صفوان: "فمن أدرك ذلك منكم، فليقع في الذي يراه نارًا، فإنه ماء عذب طيب"، وفي حديث أبي سلمة عن أبي هريرة: "وإنه يجيء معه مثل الجنة والنار، فالتي يقول: إنه الجنة هي النار" أخرجه أحمد، وهذا كله يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرائي، فإما أن يكن الدجال ساحرًا فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإما أن يجعل الله باطن الجنة التي يسخرها الدجال نارًا وباطن النار جنة، وهذا الراجح، وإما أن يكون ذلك كناية عن النعمة والرحمة بالجنة، وعن المحنة والنقمة بالنار، فمن أطاعه فأنعم عليه بجنته يؤول أمره إلى دخول نار الآخرة، وبالعكس، ويحتمل أن يكون ذلك من جملة المحنة، والفتنة، فيرى الناظر إلى ذلك من دهشته النار فيظنها جنة، وبالعكس.

وهذا الحديث لا يعارض ما أخرجه الشيخان عن المغيرة بن شعبة قال: ما سأل أحد النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الدجال ما سألته وإنه قال لي: "ما يضرك منه؟ " قلت: لأنهم يقولون: إن معه جبل خبز، ونهر ماء، قال: بل هو أهون على الله من ذلك.

فقد قال عياض: معناه هو أهون من أن يجعل ما يخلقه على يده مضلًا للمؤمنين، ومشككًا لقلوب الموقنين بل ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويرتاب الذين في قلوبهم مرض، فهو مثل قول الذي يقتله: ما كنت أشد بصيرة مني فيك، لأن قوله: "هو أهون على الله من ذلك" أنه ليس معه شيء من ذلك، بل المراد أهون من أن يجعل شيئًا من ذلك آية علي صدقه لاسيما، وقد جعل فيه آية ظاهرة في كذبه وكفره يقرؤها من قرأ، من لا يقرأ زائدة علي شواهد كذبه من حدثه ونقصانه، والحامل على هذا التأويل أنه ورد في حديث آخر مرفوع، ومعه جبل من خبز ونهر من ماء، أخرجه أحمد والبيهقي في "البعث" عن مجاهد، قال: إنطلقنا إلى رجل من الأنصار فقلنا له: حدثنا بما سمعت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الدجال، ولا تحدثنا عن غيره، فذكر حديثًا فيه: "تمطر الأرض ولا ينبت الشجر، ومعه جنة ونار، فناره جنة، وجنته نار، ومعه جبل خبز" ورجاله ثقات، ولأحمد عن جنادة بن أبي أمية عن رجل من الأنصار: "معه جبال الخبز وأنهار الماء"، ولأحمد عن جابر معه جبال من خبز والناس في جهد إلا من تبعه، ومعه نهران، الحديث فدل أثبت من ذلك على أن قوله: هو أهون علي الله من ذلك، ليس المراد به ظاهره، وأنه لا يجعل على يديه شيئًا من ذلك، بل هو علي التأويل المذكور، قال ابن العربي أخذ بظاهر قوله: "هو أهون على الله من ذلك" من رد من المبتدعة الأحاديث الثابتة أن معه جنة ونارًا، وغير ذلك قال: وكيف يرد بحديث محتمل ما ثبت في غيره من الأحاديث الصحيحة، فلعل الذي جاء في حديث المغيرة جاء قبل أن يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره، ويحتمل أن يكون قوله: "هو أهون أي: لا يجعل له ذلك حقيقة، وإنما هو تخييل وتشبيه على الأبصار، فيثبت المؤمن ويزل الكافر، ومال ابن حبان في "صحيحه"

<<  <  ج: ص:  >  >>