للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقدْ حَمَلَ الرَّازيُّ (ت:٦٠٤) التَّسبيحَ على أنه حاليٌّ مجازيٌّ، وزعمَ أنَّ التَّسبيحَ المقاليَّ لا يحصلُ إلاَّ مع الفَهْمِ والعلمِ والإدراكِ والنُّطْقِ، وكلُّ ذلك في الجمادِ مُحَالٌ، فلم يَبْقَ حصولُ التَّسبيحِ بِحَقِّهِ إلاَّ بطريقِ الحالِ، ثمَّ قالَ: «واعلمْ أنَّا لو جوَّزْنَا في الجمادِ أنْ يكونَ عالماً متكلماً، لَعَجَزْنَا عن الاستدلالِ بكونِه عالماً قادراً على كونِه حَيًّا، وحينئذٍ يفسدُ علينا بابُ العِلمِ بكونِه حَيّاً، وذلكَ كُفْرٌ. فإنَّه يقالُ: إذا جازَ في الجماداتِ أنْ تكونَ عالمةً بذاتِ اللهِ وصفاتِه وتسبيحِه، مع أنها ليستْ بأحياءَ، فحينئذٍ لا يلزمُ منْ كَونْ الشَّيءِ عالماً قادراً متكلماً، كونُه حيّاً، فلم يلزمْ منْ كونِه تعالى عالماً قادراً كونُه حيّاً، وذلكَ جَهلٌ وكفرٌ؛ لأنَّ من المعلومِ بالضرورةِ: أنَّ منْ ليسَ بِحَيٍّ، لم يكنْ عالماً قادراً متكلماً، وهذا القولُ الذي أطبقَ العلماءُ المُحَقِّقُونَ عليه» (١).

وإنما جَسَّرَ الرَّازيَّ (ت:٦٠٤) على حملِ اللَّفظِ على مجازِه هذه الشُّبهةُ التي أوردَها، وهي إشكالٌ يَرِدُ على من ليسَ عندَه إلاَّ هذا الدليلُ لإثباتِ حياةِ اللهِ سبحانه، وليسَ هناكَ ما يضطرُّ إلى هذا المجازِ، بل التَّسبيحُ حقيقيٌّ، وهو كما قال الله سبحانه: {وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فنثبتُ ما أثبته الله لهذه المخلوقات حقيقة، ونؤمن بظاهر اللفظ، هذا مع وُرُودِ عِدَّةِ آياتٍ وأحاديثَ تدلُّ على حصولِ السجود والتسبيح وغيرها من الإحساسات للجماد، مما يجعل تكاثر هذه النصوص مبعداً لها عن المجاز إلى الحقيقة. وإذا أضفت ما ورد في السُّنَّة من حنين الجذع، وشكوى البعير، وتكلم الكتف المسموم، وغيرها، أيقنتَ أن هذه التصرفات لها على الحقيقة لا المجاز، والله أعلم.

وهذا القول خلاف ما ورد عن السلف الذين جعلوا التسبيح حقيقياً (٢)،


(١) تفسير الفخر الرازي (٢٠:١٧٥).
(٢) ينظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي (١٥:٩٢ - ٩٣)، وبحر العلوم، للسمرقندي (٢:٢٧٠)، ومعالم التنْزيل، للبغوي (٣:١١٦ - ١١٧)، وتفسير القرآن، للسمعاني (٣:٢٤٤ - ٢٤٥)، وغيرها.

<<  <   >  >>