للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيبعد أن يكون النهي للزجر عن هذا اللفظ.

والوجه الثاني: قال بعضهم: يحتمل أن يكون كره له أن يقول "نسيت" بمعنى تركت لا بمعنى السهو العارض، من قبيل قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: ٦٧].

وهذا الوجه بعيد أيضًا، لأن حاصله اللجوء إلى المجاز، ولا توجد قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، بل القرينة تبعد هذا المجاز، إذ قوله في الرواية الرابعة والخامسة والسادسة: "بل هو نسي". بضم النون وتشديد السين المكسورة يبعد أن يكون المراد منه بل هو ترك.

الوجه الثالث: قال الإسماعيلي: يحتمل أن يكون فاعل "نسيت" النبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يقل أحد إن محمدًا صلى الله عليه وسلم نسي آية كذا، فإن الله هو الذي نساني عن ذلك لحكمة نسخه ورفع تلاوته.

وهذا الوجه أبعد من سابقيه، إذ كان ينبغي أن يقول - لو كان ذلك مرادًا - "بل أنا أنسى" بدل "هو نسي"، كما يزيده بعدًا تعقيب هذا النهي بالأمر باستذكار القرآن وتعهده مخافة نسيانه.

الوجه الرابع: أن يكون ذلك خاصًا بزمان النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ضروب النسخ نسيان الشيء الذي ينزل ثم ينسخ بعد نزوله، فيذهب رسمه، وترفع تلاوته، ويسقط حفظه عن حملته. قاله الخطابي. وحاصله النهي عن أن يقول أحدهم: نسيت الآية المنسوخة، فهو قريب من قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها} [البقرة: ١٠٦] وهذا الوجه أبعد من سوابقه، لأن الرواية السادسة تقول: "نسيت سورة كذا وكذا" ولم تنسخ سور ولا سورة، ثم إن هذا الضرب من النسخ لا يكاد يثبت، ثم إن تعقيب هذا النهي بالأمر باستذكار القرآن وتعهده دليل على الخوف من النسيان، ولا يخاف على نسيان المنسوخ.

الوجه الخامس: أن سبب النهي والذم ما في القول من الإشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذ لا يقع النسيان إلا بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهد بتلاوته لدام حفظه وتذكره، وقد عبر القاضي عياض عن هذا الوجه بقوله: أولى ما يتأول عليه الحديث ذم الحال لا ذم القول، أي بئس الحال حال من حفظه ثم غفل عنه حتى نسيه. اهـ

وحاصل هذا الوجه النهي عن ترك المحفوظ بدون مذاكرة وتعاهد، وذم الغفلة عن تلاوة ما حفظ، كما تقول: لا تعتذر، وتقصد لا تفعل فعلاً تعتذر عنه. وهذا التوجيه حسن ومقبول، لكنه لا يصلح معه أن النهي لكراهة التنزيه فالحالة المنهي عنها حينئذ حالة محرمة، بل من السلف من جعل نسيان ما حفظ من القرآن من الكبائر ومن أعظم المصائب، واحتجوا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعًا: "عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها": وفي رواية: "أعظم من حامل القرآن وتاركه". ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعًا: "من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم". أي مقطوع اليد. وقيل: مقطوع الحجة. وقيل: خالي اليد من الخير. وقيل: يحشر مجذومًا حقيقة. وهذه الأحاديث وغيرها مما في معناها يقوي بعضها بعضًا مما يفيد الحرمة لا نهي التنزيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>